سلسلة أماكن عامة:
“صحبة الآداب“
كنت مدرسا بطرابلس، لسنتين، حين إتخذ القرار بفتح فرع لكلية الآداب في المدينة. كنت قد نلت شهادة الماجستير من الكلية نفسها ببيروت. وكنت أسمع أن بعض أئمة المساجد، قد تقدموا بطلبات تدريس العربية فيها.
كنت أتردد يوم ذاك، على نادي الجامعيين. تقدم مني شاب طموح، يتابع دروسه الثانوية. جرى التعارف بيني وبينه. كان شديد التهذيب. تبادلنا الأشجان في ذلك الزمان، على عادة الخلان، خلال أيام. كان يتابع فتح الفروع الجامعية بطرابلس، بإهتمام. لأنه كان تابعا لحزب من الأحزاب. ولأنه كان على أبواب الدراسة الجامعية.
توسمت في ذلك الشاب كل خير من صحبته. صرنا نتواعد على القدوم إلى نادي الجامعيين كل مساء. نمضي الوقت في مراجعة الحساب بين الأجيال وطموحاتهم. سألني: لماذا لا أقدم طلبا للتدريس في كلية الآداب، ما دام أنهم بحاجة، لأساتذة لكلية الآداب. وما داموا يستعينون بأئمة المساجد والجوامع، ليملأوا الشغور، في ساعات التدريس. عرض علي أن يصحبني إلى المدير المكلف بالتوظيف. فذهبت بصحبته، إلى الميناء. كان المدير، وهو في الآن عينه، أمين سر الجامعة اللبنانية، ورئيسها بالتكليف. فاجتمعت لديه كل القرارات.
صعدنا إلى دارته المطلة على البحر. صعدنا السلم الحجري، إلى الصالة المميزة. كان يجلس في صدر الصالة، ويستقبل الوفود. رأيت بعيني لأول مرة، كيف تجري التعيينات.
وجاء دورنا. تقدمت منه، وإلى جانبي صديقي. شرحت له أمري. فنادى على قريبه الذي كان قد عينه ناظرا في الكلية، قبل فتحها، أن يدون إسمي بين سائر الأسماء.
عدنا من حيث أتينا. غير أني عرفت الأمر عن قرب. أسرعت في اليوم التالي، وأتيت مدير الفروع، بوفد عظيم، من المعارف والأصدقاء والأقرباء. كنا في خمس سيارات. ما أن وصلنا إلى ساحة قصري آل علم الدين، حتى أطلقنا الزمامير، تعبيرا عن وصول وفد عظيم. نزلنا بهيئة أكابر القوم. تقدمت الوفد وإلى جانبي أحد أبرز وجوه الوفد. على هيئته علامات الزعامة والمهابة والقبضنة والأغوية والبكوية والأفندية والجاه.
أوسعوا لنا صدر المجلس. ولم نتأخر كثيرا في التقدم من المدير. كان قد فرغ لنا للتو. جددت للمدير طلبي. وأكد الوجيه حقي. وعدنا على بركة الله. وفي اليوم التالي، ذهبت إلى مبنى الجامعة المقترح في القبة، لتسجيل طلبي بصورة رسمية. وصرت أتابع كل يوم، نشرة الكلية، عن الأسماء المعتمدين للتدريس، وعن توزيع حصصهم، بعد فتح الإعتمادات المالية.
فتحت الفروع الجامعية بطرابلس، في العاشر من شهر نيسان العام 1977، وذلك بحفل عظيم، شاركت فيه أستاذا معتمدا في الكلية. أضفت لنفسي، “البريستيج” الجديد: “أستاذ في الجامعة اللبنانية”. ما تخليت عنه حتى اليوم، وأنا أتابع كتاباتي، ومدوناتي اليومية. كان ذلك مهنتي الثالثة، بعد التدريس الإبتدائي والثانوي. وبعد عملي الصحفي. كان عملي الجامعي، نقلة نوعية. كان فتح الفروع الجامعية بطرابلس، مثل نعمة جديدة وقعت إلي.
كان مبنى ثكنة هليل، هو الذي إعتمد. فقد فرغ للتدريس الجامعي، بأقسامه الثلاث: الآداب والحقوق والعلوم الإقتصادية، والعلوم الإجتماعية.
كان هذا المبنى، زينة المباني التي غادرها الفرنسيون. ثلاث عمارات من الحجر الأبيض بسقوف من القرميد. كل مبنى منفصل عن المبنى الآخر بساحة عظيمة. خصص المبنى “A”للآداب. وخصص المبنى “B” للعلوم الإجتماعية. أما المبنى “C”، فقد خصص للحقوق والعلوم الإقتصادية.
كانت المباني الثلاث مؤلفة من طبقتين إثنتين. كل طبقة لها شأنها الخاص. وكان مدير الفروع الثلاث واحد. إتخذ مكتبه، في مبنى كليةالآداب. نصعد إلى درج، ثم نستظل رواقا، وندخل إلى مكتب عظيم. كان فيما مضى، مكتب القيادة.
وأما مدخل المباني الثلاثة، فموحد. وهو يطل على شارع الأرز. يربط بين مدينة طرابلس و زغرتا وسير الضنية.
مباني الفرع الجامعية، التي نهضت في العاشر من نيسان العام1977، ورثت أمجاد الثكنات، في محلة القبة. كانت كروم الزيتون تحيط بها من جميع الجهات.تتفرع الطرقات والدروب منها، إلى جميع أقضية الشمال. كانت بحق ملتقى أهالي الشمال كلهم، لأن محلة القبة، كانت قد إنشئت في زمن الفرنسي، لتكون واسطة العقد، بين جميع أقضية الشمال.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين