فراءة في ديوان (عزيزتي بيروت .. هنا مونتريال) للشاعرة دارين حوماني
الصادر عن العائدون للنشر 2023 الطبعة الأولى/ 137 صفحة…
بقلم : د. زينب فياص
-×-×-×-×-
عزيزتي بيروت … هنا دارين
إنه ديوان المسافات الزمنية والمكانية. بدءاً من العنوان حتى آخر غصة في القصائد. نحن مدعوين للتنقل بين مسافات الكلمات والقصائد، للهرولة بين مسافة المعنى المرتبك، تماماً مثل روح القصائد وتأويلها.
دارين حوماني بكل قوة الكلمات تربكنا معها، برؤيتها المندهشة للمسافة بين الولادة والموت والمسافة الكافية بينها وبين الطبيعة، هو عبث الكون الذي لا ينتهي إلّا بالتخلي. تبدأ ديوانها بقصيدة (أشياء لم أرها من قبل)
“بدأت برؤية أشياء لم أرها من قبل
العلاقة بين الموت والولادة من جديد
بين الخوف والهدوء العميق
بين أن تمشي بمحاذاة النهر مع أحاسيس لم نستجب لها
أن نكون أحرارا من أنفسنا والحياة وسط المياه
الطريقة الوحيدة للصفح عن الإله والآخرين
التخلي.”
في مونتريال حيث استقرت حوماني تعترف لنا أن (اللاعودة) لدواخلنا المغتربة، فلسفة مميتة
“خلط الأحرف
لعل الكلمات تجد مستقرا لها
مكاننا بين المكان واللامكان
إله سبينوزا يكبر في داخلنا
لم يعد بوسعنا العودة
ليس بوسعنا أيضاً
إكمال الطريق”
بعيداً عن الأمكنة التائهة خارجنا وداخلنا وعن فلسفات الوجود التي تحملها النصوص الشاعرية بقوة لترشدنا لأعماق الشاعرة الخفية، يظهر شعور الحب بخفة لا متناهية بين الأسطر وكأنها، دارين، تداري سوءة هذا الكون البغيض بورقة التوت اللطيفة (الحب) تردم حفرة العبث الكونية بقصيدة (حفرة بعد الظهر)
“كي أكتب
أريد أن أقرأك أولاً
أن أحبك من جديد
بعد أن خسرت الكثير من خيوطي
التي تربطني بهذا العالم
………..
حب آخر بثوبٍ جديد
الطفولة متاحة معه
حتى بعد اجتياز السن القانونية للحب …
الحب يمنحنا طريقة الشجر في النمو”
بيروت عزيزة الشاعرة دارين حوماني مدللة القصائد في هذا الديوان، كلمة السر التي نعبر من خلالها روح الشاعرة التي صفعها الوطن ببأسٍ شديد فغادرته استعداداً لمجهول آخر.
(الاستعداد لزمن آخر)
“أحاول أن أزرع شجرة
هنا على ضفة نهر سان لوران
في مقاطعة شمالية باردة
ننتمي لها
كل الطيور المهاجرة عن أوطانها غير سعيدة
المكان مهيأ للعزلة
للصراخ إذا أمكن
لكل صداقة مع ما هو حي وأزليّ
لحظات من خارج الكون”
داخل هذا الديوان أسئلة مالحة ولن تجد أجوبتها على مائدة القصائد، إنها فلسفة الوجع. قصائد بعناوين مثقلة بالقلق، مبهمة، عميقة كمتاهات كونية، (ما هي السعادة) (فراغ) (الغرق) (صلاة لكوفيد 19) (موت على دفعات).
تعود بنا شاعرة المسافات دارين حوماني لبيروت، كغيمة شاردة، يتيمة الوطن، قليلة المطر. هي بيروت التي حيّرت العالم، بقربها تموت ألف مرة وبعيداً عنها تشتاق آلاف المرات.
(مطر قليل فوق بيروت)
“هذه السنوات، بأشهرها بأيامها
بيوت منعزلة من جهة البرد
تختفي في عزلة الغيمة السوداء
هذه السنوات، نافذة مفتوحة على مقبرة
غيمة بجيوب ممتلئة لكنها لا تمطر
العمر يرتفع تلقائياً في العتمة
إشارات صدأ في القلب”
هو ديوان المسافات القاتلة (على حدود وطني) (وطن على الطريق) (بطاقة هوية) هذا ما تكتبه شاعرتنا ما تريد إخبارنا عنه أن الأوطان (أغنية بلا موسيقى لأجل عالم ما). الوطن/ بيروت مساحة مقدارها خيبة وظلم، يحدها من الشمال حنين بارد ومن الجنوب بساتين من الأرواح الحامضة ومن الغرب محيط من القهر يغشانا فيقتل الأمل، من الشرق جبال من القوة تتآكل كلما بعدنا عن لبنان.
في آخر الديوان في آخر سطر، صلاة مركونة على رفوف الروح حتى يخف ألم الانتظار للشاعرة ولنا ولكل من يسترسل بشغف داخل أحاسيس دارين حوماني الدفينة في قلب جملها.
“الصلوات ثقوب جميلة
الانتظار أكثر ألماً”
الشاعرة دارين حوماني
قراءة في ديوان (أشجار غير آمنة) الصادر عن دار النهضة العربية 2022 ـ 120 صفحة للإعلامية الشاعرة دارين حوماني.
” أين أنتِ يا أوديت؟
الحقيقة كثيرة عليّ”
تختصر حوماني كل الحيرة التي تعتريها بهذه الجملة. الحقيقة، الدهشة الكونية التي يلهث خلفها الجميع.. شجرة التساؤلات تثمر دوماً علامات تعجب، فلا نصل. في هذا الديوان تخبرنا دارين الشاعرة (لست بخير)
” أنا حزينة إلى أجل غير مسمى
يكاد الحزن يتحول إلى كائن في داخلي”
لن نتساءل كثيرا عن سرّ الحزن فشاعرتنا المملوءة بالقلق لا تجيبها الفلسفة عن تعجبها ولا الأديان برمتها منحتها أجوبة. البحث عن الأمان يطغى على نصوصها، لم تؤدي كل العلوم الإنسانية وغير الإنسانية دورها في إيجاد الحل لضياع نفس الشاعرة دارين.
حوماني الرقيقة تعطينا (خيار آخر للتنفس)
العازف يتألم
يد العازف تتسرب في عالمي
مثل وجه طفل ينظر إلىّ من النافذة”
الرقة سمة تتكون داخل رحم نصوص دارين حوماني لذلك غالبا تجدها تبهرنا بأطفالها/ قصائدها ثم تخفيهم بين السطور، تغرينا لنبحث عن المعاني المرهفة داخل قسوة الأسئلة الوجودية.
تجول بنا الشاعرة فنتجه معها إلى (قبر أبي)
“الصمت هنا
اسمه الطريق إلى الجنة
والقبر ينظفه أبي
كلما شعر بالوحدة”
الآباء كما الأوطان نرغب بهجرتهم لنؤكد لأنفسنا أننا كبرنا ثم نصاب بالخيبة فجذورهم طاعنة داخلنا. لذلك الأشجار تكون غير آمنة في ديوان حوماني الشاعرة. أعتقد أنها تحاول أخبارنا أن اقتلاع الأشياء التي نعتقد أننا لا نريدها والبحث عن بديل أمر مربك فلا نحن هنا ولا نحن هناك. ربما تحاول الشاعرة أن تصحبنا إلى (مكان آخر من الأرض)
“سارتر قل لي الحقيقة
لا تكن مزيفاً إزاءها
ما معنى أن نكون موجودين
وسط هذا العالم القذر؟
أريد خاتمة لكل هذا الإحساس الغريب
باللا انتماء”
سنجد داخل الديوان الشعري دوما السؤال الأزلي عن الحقيقة. لعبة الإله الكونية التي تورطنا بها. تحاول الشاعرة أن تختصر لنا المحاولات الفاشلة التي يخطط لها العميقون أمثالها من خلال (مواجهة أصنام هذه الأرض) والإقرار بحقيقة مؤكدة (نحن الذين نظن أننا أحياء) لذلك عندما تكتب بقوة ورقة وحيرة والكثيرة من الأسئلة وحين تحاول البحث عن أشجار آمنة هي ترى (هذا الكوكب من نافذتي)
قبل أن تغلق دفتي الديوان الشعري ستجد (عصام العبدلله) ملهم الكثيرون من الشعراء والكتّاب يجلس على طاولة داخل قصيدة باسمه يبارك لها الديوان الشعري الراقي ثم يترك فراغاً داخلنا.. داخل الديوان الشعري.. داخل بيروت.
زينب فياض والشاعرة دارين حوماني خلال توقيع الديوان في صالون خيرات الثقافي في بيروت