أماكن خاصة/ الحلقة 17:
دارة التربيعة
-×-×-×-
حين نجحت في إمتحان الدخول، إلى دار المعلمين، بطرابلس، في تشرين الأول من العام1963، صرت أبحث عن غرفة بسيطة، للسكن. كنت أفتش عن غرفة تأوييني، ولا تكون إجرتها عبئا علي. كان نصيبي، أن أجدها في التربيعة، خلف سوق البازركان من الجهة الشمالية، وسوق الحدادين وسوق حراج وساحة البركة. ولا تبعد كثيرا، عن مدخل مدرسة الفرير، التاريخية القديمة.
إهتديت إلى دارة التربيعة، عن طريق سمسار عتيق في المنطقة. سرت بصحبته، من أمام الفرن الذي كان يعمل فيه، أحد أقربائي، من سوق الحراج. تجاوزنا سوق البازركان، فقبوة سوق النحاسين، حتى وصلنا إلى باب سوق الحشيش، الذي صار فيما بعد سوق الحداشتة( نسبة إلى بلدة حتدشيت)، فدلفنا من تحت القبوة الموصلة إلى مدرسة الفرير، وصعدنا درجا جاثما عظيما من الحجر الأبيض. وأما عدد درجاته فتبلغ زهاء العشرين وما فوق.
درج عريض واقف على حيله، ينتهي أمام باب خشبي. وراؤه دارة عظيمة مبلطة بالحجر أيضا. تحف بها غرفتان، واحدة عظيمة عميق، بطول خمسة عشر مترا، والثانية صغيرة مربعة. كانت الغرفة الكبيرة، تسكنها عائلة مكونة من زوجين وخمسة أولاد من بلدة الفاكهة، على كتف نهر العاصي. وأما الغرفة الصغيرة، ففارغة. وبإزاء الغرفتين، حمام خارجي، وبرميل ماء مكشوف، تحت سقف الحمام المكشوف أيضا. يصب فيه نبريج، إذا ما نقصت مياهه يزيده ماء. وأما مياهه الزائدة، فكانت تفيض في أرض الحمام، فتذهب إلى مجرور مكشوف، أو شبه ساقية. وخلفه غرفة خربة. تساقط سقفها، ولم تعد صالحة إلا لرمي المهملات. أذكر أن هذا الحمام كان الحمام الوحيد في الدارة. وكان حماما مشتركا بين الغرفتين.
كان عمري يناهز الخمسة عشر عاما. أشفقت علي سيدة البيت أم أحمد، حين وجدتني أدخل بصحبة السمسار، لأرى الغرفة الصغيرة من الداخل. كانت مساحتها لا تتجاوز العشرة أمتار. وهي بالكاد تتسع، لسرير واحد وطاولة وكرسي. وخزانة صغيرة بسيطة للثياب.
أذكر أني أتيت بالسرير الحديدي المستعمل، من سوق حراج. إشتراه لي والدي بعشر ليرات. وأتيت بالفرشة من باب التبانة، بالأمانة. كما أتيت بالطاولة والكرسي من سوق النجارين، بساحة النجمة. كانت كل مشترياتي بالكفالة، من أحد معارف أبي. تعهدت أن أدفع ثمنها، بعد أن أقبض منحتي الدراسية الموعودة. صرفت خمسين ليرة على تأسيس غرفة التربيعة، قبل حصولي على المنحة الشهرية، وقيمتها الفعلية تسع وتسعون ليرة.
نمت لأسبوع وأكثر على السرير الحديدي، بإنتظار الحصول على فراش له. ثم أمضيت ثلاثة أشهر أخرى، لتأمين الملحفة( الكوفر لي) والشراشف.حملت الخزانة الخفيفة والطاولة والكرسي، على دفعتين. وفي اليوم السابع إسترحت.
إكتملت سعادتي، وأنا أضع كتبي ودفاتري على طاولة الفورميكة الصغيرة الجديدة. وخلفها كرسي الخيزران اللماعة بالفرنيش و المقششة. كانت ليلتي الأولى جميلة على السرير الحديدي العاري، إلا من لحاف بلا “كوفر”. بلا أغطية. حقا كانت سعادتي لا توصف، وأنا أنظر إلى سماء الغرفة من الخشب البحري القديم. وأمامي شباك بدرفتين خشبيتين وشبك حديدي. وبإزائه باب بدرفتين أيضا، مفتوح على فضاء الدار، فأرى زرقة السماء وشمسها في النهار. وأرى في الليل، صديقنا القمر، وأعد صويحباته من النجوم.
كانت أم أحمد تدعوني في المساء لأسهر مع أبنائها. كنت يومها بعمر إبنها محمد الذي يدرس مثلي، في دار المعلمين، بجونية. كانت تقول لي: أنت مثل إبني محمد، هنا في البيت.
كانت تطلب مني ثيابي لغسلها كل أسبوع، حين تغسل ثياب أولادها. كانت تلح علي، لأستحم مع أبنائها. وكثيرا ما كانت تضع تنكة الماء على بابور الكاز، وتنتظر حتى تسخن، ثم تنادي علينا واحدا واحدا.
كانت أم أحمد تنتظر أن يتوظف إبنها الكبير أحمد، حتى تتحسن حالها.
بعد أشهر قليلة، توظف إبنها أحمد. فغادرت مع أولادها الخمسة، إلى دار جديدة في محلة الزاهرية. وصار زوجها يزورها كعادته بين الحين والآخر، ليعدلها بزوجته الجديدة الثانية.
خسرت بعد منتصف العام الدراسي، جيرة أم أحمد وأبنائها. ولكني ظللت على صلة معهم. كنت أذهب إلى صحبتي من أولادها، فأراهم يعملون، مع أبو أحمد في مصبغة الجمهورية بشارع مصطفى عزالدين. قرب مدرسة الراهبات. ولطالما كنت أذهب للسهر عندهم، حين يأتي محمد، مساء كل سبت من دار المعلمين بجونية. أسلم عليه. نقطع الوقت الجميل معا.
كانت دارة التربيعة، دارة رائعة. كانت لها سلم حجري أبيض، يصلها إلى السطوح التي تطل على السطوح المجاورة. كنت أصعد للدراسة عليها، فأجد أمامي التلاميذ وقد سبقوني إلى الأسطح. كنا نروح ونجيء على السطوح، وكأنها كلها لنا. كان الكتاب يجمع بيننا.
دارة التربيعة، لا تزال تسكنني، حين أتسلق درجها الخارجي. وحين أتسلق درجها الداخلي. سقطت مني على أدراجها زهرة عمري. سقطت دفاتري. سقطت كتبي. سقطت صحبتي. سقطت يداي. وغاب عن ناظري كشاش الحمام، الذي كان يسلم علي من بعيد. يلوح لي بمنديله. يريد أن يكشني عن السطح، حتى لا يفزع مني رف الحمام. صرت أحمل إليه الحب، وأزرعه على السطح، فتهفو إلى قلبي ويدي، جميع رفوفه. كنت أردد مثله: غط الحمام. طار الحمام. وحين غادرت دارة التربيعة، طارت ورائي بعض من أحلامها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د.قصيّ الحسين في شارع الحمراء في بيروت ( تصوير يوسف رقة )