أماكن خاصة/الحلقة 15 بيت الأرز
ما أجمل أن يقف المرء ولو لبرهة واحدة، في شارع الأرز بطرابلس. في محلة القبة، وسط زيتون طرابلس المشهور، وقبالة أجمل شاطئ على البحر، حيث يغسل قدمي جبل البداوي، ثم يمتد خلف جنائنها، وصولا إلى أعظم حديق هناك، حديقة مباني الإنكليز و التابلاين. فتمتد أمامك المدينة كلها، بشمالها وجنوبها. وشرقها وغربها. ما أجمل أن تستنشق عبير الأرز، وأنت تقف في رأس، الذي يقف على مفترق. على تقاطع، بين الضنية وزغرتا. هذا الشارع الذي أوله عند شارع الجيش، قبالة الثكن العسكرية، التي تحولت إلى جامعات، بعد إخلائها. وقبالة جبل تربل وتحته جبل محسن. ذلك الجبل المطل على دير عمار والمنية. و على بيروت وإنطاكية وقبرص، وهو لا يشبع من النظر إلى سفوح جبلي المكمل و الأرز.
محلة كانت هي طرابلس الجديدة، التي ظهرت بعدما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. وجد فيها الفرنسيون، بعد إرساء لبنان الكبير، المحلة الأعظم، لبناء الثكنات العسكرية، خارج المدينة. محلة هي الأوسع، تمتد في جميع الجهات إلى سائر الأقضية. جروا إليها الماء من بلدة رشعين القريبة، وبنوا فيها المؤسسات العامة. وشجعوا الإرساليات، أن تأتي بأديرتها وبمدارسها، لتلاقي الناس هناك من جميع الطوائف، تحل عقدهم التاريخية. وتقول لهم هيا إلى العمل.
أطلق الفرنسيون على هذا الشارع، إسم شارع الأرز، لأنه كانت الطريق العامة الوحيدة من جهة الشمال، من طرابلس، إلى الأرز. كانت القوافل تعبره منذ قديم الزمان. تتخذ من بلدة مجليا، مستراحا لها قبل الوصول إلى الخانات. وهي قادمة من دمشق من عنجر. من البقاع. من بعلبك . من الهرمل. من حماه وحمص والقصر. تعبر ظهر القضيب. ترمق القرنة السوداء وجبل المكمل، تنزل إلى الأرز. تستريح في بلدة بشري، فوق وادي قنوبين. ثم تكمل طريقها إلى إهدن وزغرتا ومجليا. حتى تحط رحالها في خانات طرابلس، في سفوح القبة. تلك التي كانت أعظم محلة في دنيا طرابلس: الزيتون والليمون ومعامل السكر والصابون ومعاصر الزيت. وحدائق التابلاين والجنائن الخضراء والمرفأ والبحر.
ذهبت الحرب الأهلية بهذة المحلة العظيمة كلها، بين عامي: 1975-1976. ولكنها لم تذهب بتاريخها. ظلت محلة الريجي والآباء البيض والمستوصفات والثكن العسكرية ومدرسة الراهبات ومدرسة الأميركان، والمدرسة المهنية، ومحلة خزانات شركة التابلاين، نقطة التلاقي، بين جميع أقضية الشمال بلا أستثناء، من عكار إلى البترون.
أعيدت إلى محلة القبة بعض كرامتها، بعدما شلعتها الحرب الأهلية وخربتها. بعد أن حولتها إلى خطوط تماس، وهدمت كل بيوتها. وجرفت كل مافيها. عادت البيوت إلى أهلها من حصرون وحدشيت ومن بلدات الزاوية. ورممت بالقروض الممولة. وسارعت الدولة، لإعادة المدارس إليها. وأتت بالفروع الجامعية، إلى أجمل الأبنية. إلى ثكنة هليل التاريخية.
كنت آنذاك مدرسا فيها. مدرسا في كلية الآداب، قسم اللغة العربية. وأردت أن أكون بجوارها، وأنا أنظر إلى الأبنية التي يعاد ترميمها. فوقع إختياري على شارع الأرز. وقع إختيار على بناية طنوس الخواجا. كانوا يسمونها الباخرة، لعظمتها. فهي مكونة من اكثر من أربعين شقة سكنية. سألت عنها قالوا إنها صورة عن لبنان، على طريق الأرز. فقلت وجدتها. قلت ها هي.
بادرت على الفور، لإتخاذ بيت الأرز بيتي. وهل هناك أعظم من أن يتخذ المرء لنفسه بيتا من الأرز. كان مالكه قد سكن فيه لعام أو عامين. ثم وقعت الحرب. وبعد أن وضعت أوزارها، عاد إليه يحمل من الأرز عطره. يحمل إليه صلابة العود. و كذلك الريح التي أتى بها من وادي قنوبين، تحت أقدام الأرز.
كان رمزي حصيراتي، يضع في بيت الأرز، صباح كل يوم، قطعة منه. يحمل معه شلحا من شلوح أرز الرب. من الأرزة التي تلوح له. يعطره بعطر الأرز المنقى ويدعو الرب، أن يحميه، مثلما حماه من الحرب.
كان بيت الأرز مسكني لأول مرة في محلة القبة. كان أيضابيت عرسي. وكنت أنزل كل صباح إلى الجامعة، أعطي فيها درسي. كان متنفسا لي، من ضوضاء المدينة. كان بيت الأرز الدرب إلى متابعة الدراسة، وتحصيل العلوم الجامعية. كنت أدرس الطلاب في الجامعة،وأدرس لأعد شهادتي في الجامعة. شهادة الدكتوراه. وعندما أعود إلى بيت الأرز، كنت أحمل معي كورات الجامعة، ومراجعي الشخصية. كنت أحضر نفسي بين جدرانه العبقة بالعنفوان، لنيل شهادة الدكتوراه في حينها، من الجامعة اليسوعية. كنت أجد بين جدران بيت الأرز ملاذا هادئا للقراءة والتحرير. كنت أجد بين جدرانه العطرة، كل الظروف المناسبة للتعلم والتعليم. وبناء الأسرة الصالحة.
في بيت الأرز ، كنت قد أطلقت دعوتي، لجميع أخوتي، أن يأتوا إلي، للتعلم في الجامعة. كان قريبا من جدرانها. كان قريبا من بابها. كان قريبا من قاعات التدريس. كان قريبا من مكاتب ومدرجات الجامعة. كنت أتناول ، وأنا في الطريق إليها، عروسا من الزيت والزعتر. أصل إلى باب الجامعة، قبل أن أصل إلى آخر قضمة أقضمها.
فتح بيت الأرز لأخوتي ولأهلي، كل أبواب الجامعة. تعرفوا فيه، على دنيا الدراسة الجامعية. وعلى دنيا طرابلس، من القبة. وعلى دنيا الأقضية المتنوعة. بل على دنيا ظهر القضيب والقرنة السوداء وجبل المكمل وقمة عاروبة معا.
بيت الأرز في الطبقة السادسة، من بناية طنوس الخواجا، بشرفته التي إتخذت شكل( L ) بطول أكثر من عشرين مترا ، المطلة على طرابلس كلها، وعلى بلدة الميناء، التي تعرف بالأسكلة، وعلى جبلي أيطو وتربل، كانت ملتقى زملائي في الجامعة. كانوا يأتون من بيروت مرهقين، بالسفر الطويل، ومتعبين بالهواجس المقلقة فألاقيهم إلى ساحة القبة. أخرج بصحبتهم. فلا يجدون إلا بيت الأرز، يؤمونه للإستراحة. كنت في بيت الأرز أستضيفهم، على الترويقة والغداء. وعلى تناول الشاي والقهوة. وكانت والدتي كما أخوتي، قد تعودوا علي، وأنا أبيض وجهي، مع مع جميع من يعرفني، ويجيء معي. كنت هكذا، وأنا في بيت الأرز، كما في بيت أهلي في القرية، أشعر بمعنى بسط اليد لأهل الطرقات، لأهل الدروب، لأهل السفر. لأهل الظروف المنقطعة. لأهل الظروف المتقطعة.
كانت الغرف الثلاث في بيت الأرز ممتلئة بالأسرة. كانت تستقبل أخوتي وأخواتي. وأحيانا، كنت أفرش لهم قلبي سجادة، على أرض الصالة العظيمة. جعلت من الصالة، مثل شقة أعرابي، شد أطنابها، من المدخل الشمالي، إلى الشرفة الجنوبية. وجعل كل شيء فيها صالحا للطعام والشراب والمنامة.
كانت الصالة أرضا محايدة. يدخلها الجميع بمفاتيحهم. أعطيتهم قلبي، فجاد بمفاتيحه عليهم، ليتعلموا وليخطبوا. وليتزوجوا. أتيت بهم من القرية، لأنها ضاقت عليهم نواحيها.
وسع لهم بيت الأرز جوانحه. جعلها يطيرون واحدا واحدا، إلى أعشاشهم الزوجية إلى حياتهم المستقلة الخاصة. هكذا طاروا من بيت الأرز وحطوا بعد حين في المدينة. هكذا إستوطنوا المدينة، على شلح من الأرز. وجدوه عندي بين ضلوعي في بيت الأرز. هكذا إقترفت تعليمهم جميعا، على مدار أعوام. فإستحقوا الشهادات العالية، مثلما يستحق المجرم، شهادته بالجريمة.
بيت الأرز، كان لي أول العرس. في صالته، وعلى شرفته، كنت أستقبل لأول مرة العروس و أهل العروس. كنت أستقبل أول الوعد. شهد بيت الأرز على أول الأعياد. كانت زيارتهم يتيمة. لم تكن لها أخت، إلا بعدما بنيت بين جدرانها مضربي. خيمة عرسي. أه ما أحيلى تلك الأيام، حين كنت سيد نفسي. وحين إنتقلت من بيت الأرز في القبة، إلى أبي سمراء، خرج ورائي الزيتون يودعني. كان الزيتون يسبقني.خيم حولي. كنت كلما أردت ضخ بعض الحيوية في عروقي، أحمل الكرسي من البيت الجديد في أبي سمرا، إلى ظل زيتونة، أروح عن نفسي. كنت تحت غصونها التي ترشح علي من عيونها. أجدد نفسي بنفسي.
بيت الأرز، قطعة من القلب، بنيت فيه. كان أول الحلم. كان أول الباب. كنت إذا ما أشرعته، أشعر أنه يطل على جبل من الأرز. أشعر أن الأرز، كان مسكني.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.