آمنة ناصر في تحدّ للذات المتألّمة تتمرّد على صنميّة المجتمع !
بقلم الكاتب أنطوان يزبك
-×-×-×-×-
الابتعاد أرقى من العتاب.
جبران خليل جبران
لا أعلم من وضع شروطا معينة لبناء علاقات بين البشر ، ومن صاغ القواعد العامة واشترط بعض الأمور في سلوكيات الناس ..
ولا أعرف أيضا وفي لمحة من الزمن ، أي صاحب جلال وسلطة وقوة إقناع، قد قام و أقنع شريحة واسعة من الرجال في شرقنا أن إهمال المرأة وعدم احترام مشاعرها وذاتيتها الانثوية وخصوصيتها الداخلية ؛هي فريضة ملزمة ومسلك أساسي يضمن لهؤلاء الرجال ، السيطرة والغلبة !
ابهذه الطريقة يكون برهان الرجولة ؟ أم أنّ في الرجل وراثة عضوية وعقلية باهتة، لا تتبدّل عبر الزمن، تفيض عنه في تصرفاته غير المستحبّة فيتحوّل إلى كائن مرصود ضار ومؤذ ، إلى أبعد الحدود المتخايلة ، والواقعية؟
من قال أن الرجل الفظّ الغدّار والخائن هو ما تفخر به الأمّة وترفعه العشيرة إلى مصاف الألوهة ؟ ومن قال إن عنترة كان مسيئا لعبلة وقيس أهان ليلى ؟ طبعا لا تؤخذ المسألة من فيض التشبيهات ، فالمسألة أكثر خطورة و جدية مما نعتقد والإنسان عقد العزم أن يعرف لا أن يبقى غارقا في جهله.
عندما كتب جون غراي ؛ الرجال من المريخ ، النساء من الزهرّة ، في القرن الماضي محاولا شرح الفروقات بين الذكور والإناث تعاطى مع الأمر من زاوية السهولة ومراقبة الرجال والنساء ضمن الرباط الزوجي ، فكان تحليله شبه سطحي وربّ سائل : هل كان يقصد كل رجال ونساء العالم أم هنالك استثناءات ؟
في الماضي البعيد قال سوفوكليس :
إن قوانين الطبيعة قائمة على الحق والعدل ، أما قوانين الإنسان فهي قائمة على الخداع والظلم ..
مقولة سوفوكليس من أروع ما يمكن أن يجهر به مفكّر وكاتب مسرحي مثله ، ويقدّمه كفكرة واضحة عن سلوك الإنسان ومدى الظلم الذي يمكنه ان يقترفه ، وسوفوكليس معروف بكتابة وتمثيل المسرحيات اليونانية القديمة ، وقد أيقن أنه إذ يقف وسط لعبة الحياة يفطن أنها مجرد مسرحيّة تافهة ملؤها الأكاذيب والظلم و الإجحاف وما الإنسان سوى دمية تتلاعب بها الأقدار من جهة ومن جهة أخرى يحاصرها الشرّ الإنساني النابع من طبيعة دكناء رعناء ، مرعبة أكثر من الآلة الحدباء ألا وهي الأكفان!!
الشاعرة أمنة ناصر
هكذا وصفت آمنة اكتشافاتها على صعيد شخصي وعام ، وعلى ما يبدو ان سوفوكليس ؛ تعلّم الدروس من مسرح الحياة ، كذلك نجد الأمر عينه متمثلا في شهادة حقيقيّة ؛ لدى قراءة نصوص جريئة ومتقدمة لآمنة ناصر فهي تعكس شخصيتها الداخليّة في نصوصها الصريحة المتحررة ؛ كما تقدّم الواقع والحقائق من دون لفّ و مواربة ، كما تفرج عن مكامن مشاعرها تجاه العلاقات الشائكة بين البشر وما تتخلّله من خيبات وتحديّات و صراعات ، خاصة تلك التي تحصل في عرين العلاقة الملتبسة بين الرجل والمرأة ، الرابضة في الصفّ الامامي عند عرض مسرحية تتناول كلّ مشاكل المجتمع !
قد تكون آمنة قد مرّت بمشاكل عديدة وعبرت سهولا قاحلة من جفاف أناس آخرين، في رحلة صعبة تتوفر فيها كل ظروف القهر والنكبات العاطفية المريرة ، ولكنّها لا تتفرّد بنرجسيتها وتخلق قوقعة صلبة، بل تحبّ ان تتكلّم باسم الإنسان المتألم ، ترفع صراخه بلسان حرّ ومؤانسة لطيفة عنوانها الأكبر : حريّة التعبير والمباشرة ، وهي تذكّرنا في هذه الموقعة ؛بما تقوله الممثلة شيرلي ماكلاين :
العلاقة الأكثر عمقا في حياتنا ، هي تلك العلاقة التي نقيمها مع أنفسنا …، وبذلك تكون آمنة أكثر صدقا في كتاباتها وأكثر مصالحة مع الذات والآخر ،تكتب كيّ تتحوّل إلى رأس حربة في تثوير كل العلاقات وكل الانتكاسات وكل الحيف الذي يلحق بالإنسان على مدى وجوده في هذه الأرض، وكم من علاقة أدّت إلى انهيارات كبرى بحيث لا مجال للبناء والترميم بعد الآن، هذه الصدوع في حياتها ؛ أثّرت عليها هي التي لا تنفصل عن وجودها الإنساني والفكري والأدبي ، تجارب دفعتها إلى ان تعلن وصيّة ، ففي نص سابق على النصّ الذي تتناوله الآن تعلن عن وصية وفيه تقول :
إن أبرز عنوان
يمكن أن أختتم فيه حياتي كتقييم عام مع من تعاملت معهم من البشر وعلى جميع الأصعدة : هو الخذلان .
نعم تعلن وبكل بساطة وصراحة ان الخذلان هو العنوان ، والحقيقة الوحيدة التي يجب على كل إنسان أن يدركها . وقد يقول قائل أن هذا هو انعكاس لداخل مهدّم وحزن دفين وشجن كمن يتخطّى الوجود الماديّ وينتحر في العدم ، ولكن أليست الحياة كلها موضع خيبة ومصدر للخذلان ؟ !
في ختام النص بعنوان : وصية ؛ تعود آمنة لتقول موضحة :
وأخيرا أكتبوا فوق تلك البلاطة البيضاء أن هذه الحمقاء فعلا تستحق الموت لأن مكانها ليس بيننا لأن لا مكان للصادق في هذا الكون الذي فيه عليك أن تبرّر لماذا تحسن ولماذا تحبّ ولماذا تبتسم ولماذا تناضل .
أنا أفعل كل هذا كي أقنع نفسي بأن العالم لا يزال بخير ..لأني لا أريد أن أرسم اليأس في دربي الذي شارف على النهاية.
هذا كان نصّا مغرقا في يأس غير موصوف ، سوداوية وجودية على طريقة البيرت كامو وعبثية جامحة تذكرنا بمسرح أوجين يونيسكو، وانسداد الحلول والمخارج في التراجيدية اليونانية ، وكأن فرقة من شياطين الجحيم تعزف ألحان فرقة ميتاليكا في خلفية حريق مدن وزعيق آلاف الضحايا عند اقتراب الطوفان و تسونامي الزوال.
أجل ففي غالب الأحيان، نمرّ في لحظات مميتة ولكن آمنة شجاعة تواجه الخوف من دون وجل وقد
قال الشاعر ايميرسون ذات مرة :
افعل دائما ما تخشى أن تفعله في الحياة…
في كتابات آمنة نقع دائما على نصوص وأشعار خارجة عن المألوف حيث تفعل ما يخشى الآخرون فعله ، وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة إذ تتبدّل النبرة والمضمون وحتى اللغة تتحوّل إلى لغة مباشرة وغير مكبّلة ،من الواضح الجلي فيها أنها غير متزمّتة لا بل حرّة وثائرة .
في نصّها الجديد ، نشاهد آمنة جديدة ، آمنة ناصر غير تلك التي كتبت وصيّتها واودعت نفسها القبر كما حفرت على شاهده صفاتها كذا وكذا ،هي وبعد طول تأمل وانسجام بين الماقبل ، والما بعد، كتبت هذا البوح المنطلق كطلقة رصاص متفجّرة ،وقد وصلت إلى حقائق أخرى غير تلك التي وردت في الوصية سابقا، نراها وقد حزمت أمرها ، لقد تمرّدت وتجرّدت و أدركت أنها لن تكون ما كانت عليه في السابق ، لا بل وضعت خطة طريق مثالية إذا صحّ التعبير ، لحياتها المستقبليّة ، وذلك في قالب خطابي سلس ومباشر يشبه مونولوجا على خشبة مسرح وكأنه هاملت يخاطب روح والده المقتول غدرا ، ومن خلاله يتوجّه إلى الكون والكينونة وكل تلك القوى العدميّة الشريرة التي تلعب بالمصائر ، ومن وراء كل ذلك تواجه آمنة طيف الرجل وحتى اي رجل كان بالمطلق، ليقينها أن الرجل بيده مبادرة تحسين هذا الوجود ، حتى لا نقول انقاذه بالكامل كما المرأة أيضا لها دور كبير و واجبات لا يمكنها أن تتخلى عنها وتقف موقف السلبية واللامبالاة .
يقول اندريه مالرو :
عندما يواجه الإنسان القدر ينتهي القدر ، ويتابع المرء بواسطة قواه الذاتيّة …
لعلّ هذا ما ترمي اليه آمنة ، فقد قررت الاستغناء عن كل شيء وكلّ الآخرين من حولها ، لأنّ الناس على ما يبدو لا يختلفون كثيرا عن الأصنام ، تلك الأصنام التي يعرف صانعوها أنها لولاهم لما كانت ،وأنها لا تنفع ولا تفيد ولا تنقذ ولا شفاعة لها!
آمنة تتمرد على كلّ أصنام العبوديّة التي تكبّل كل مفارق الحياة ، ولعلّ أهمّ صفة في الإنسان هي الصدق ،مع الذات والآخر ، هكذا هي آمنة ناصر صوت صادق إلى آخر الدرب، تأبى الاستسلام وتبادر إلى تغيير اتجاه الريح وفي ما تقوله الكثير من الحقيقة ففي خيار آمنة التخلي عن كل من سبب لها الألم يذكرنا بما قاله جبران خليل جبران:
الألم يغير الناس ، فيجعلهم يثقون أقل ويكفرون أكثر وينعزلون اطول …
حكمة جبرانية لا شكّ أنها تفعل فعلها في الأنفس البشريّة التي مشت طويلا على جلجلة العذابات في ظلام دامس، حكمة تتطابق مع حكمة آمنة في انطلاقتها الجديدة والجواب الامضى في قراءة النص…
النصّ :
تحوّل إتجاه الريح
عبّدتُ لهم طريق السعادة فسلكوها بعيداً عني .
دللتهم على معنى الحب الحقيقي فبحثوا عنه مع سواي .
رافقتهم إلى قمة الفرح والأمان فرموني في وادي الخوف والحزن.
فرشت بساطاً أحمر للقائهم بشوق وحب فداسوه ومضوا تاركين الخيبة .
هل يلومني أحدٌ إذا عزمت على الرحيل؟
هل ألام إذا دست على قلبي ودفنت مشاعره في الأغوار؟
هل ألام إذا حطّمت أدراج العودة لأمضي في مشوار طويل؟
سأعتزل كلّ شيء
الوقت والمكان والذاكرة
سأعتزل نفسي
سأتبرأّ من قلبي وعقلي
لأكون هالة ً من فراغ
سأرتدي معطف اللامبالاة
والإستغباء
وأسيرُ تائهةً في درب الجنون
سأكون امرأة أخرى
امرأة ماكرة
إمرأة
لا تؤمن لا بحب ولا بوفاء
امرأة بهوية جديدة
تفتعل العداء
وتنحت بإزميلها الصخر
وتقتلع الألم من عظامها بأسنانها الحادة
شكرا لكل من أيقظني من غبائي
شكرا لكل من آذاني ليعلمني الإيذاء
ولكل من لم يقدّر عطائي لأصير من البخلاء
ولكل من استهان بودّي ووفائي كي أحسن لغة الجفاء
شكرا لكل من جابه الإيجابية لدي لتصير سلبية
وشكرا لكل من استبدل ال نعم بلاء ولاء ولاء
شكرا لكل شخصٍ قدّم لي موعظة ً دون أن يدري
من صفعني على وجهي كي أستفيق
انا الآن صرت أكره من كثرة الحب
وأجحد من كثرة الوفاء
انا الآن أغني من كثرة البكاء .