أماكن خاصة ( الحلقة 12 ):
دارة البراجنة
-×-×-×-
إختفى أبو محمد عن الأنظار في طرابلس. في باب التبانة. في حي التنك. كان من المقاولين الذين عاثوا فسادا، في بساتين الليمون بباب التبانة. كان يفلح، بل “يحلق” بستان الليمون الفواح. فتحيله الجرافة، إلى عقار مهمد. ممدد للبناء. كان يشتري كل معاملاته بالرشاوى. فلا تعجزه خريطة البناء. ولا تعجزه رخصة البلدية. ولا يعجزه التنظيم المدني. ولا رخصة السكن في البناء. ولا المخفر. ولا الدوريات. كانت أوراقه كلها مزورة. موزعة على هذا وذاك. كانت رشاواه كلها، تحيل جميع المشكلات، إلى صفر مشاكل. كانت رشاواه كلها، تحل جميع المشكلات.
لكن الأمور لم تدم له على هذة الحال. فجأة طلبته دولة السبعينيات. صار مطلوبا، أمام أكداس الشكاوى التي إجتمعت عليه. إختفى أبو محمد فجأة. غاب عن الأنظار.لم يعد أحد يعلم به، كيف إختفى فجأة. كيف “نش” من بين المقاولين. من وجه العدالة. كيف صار إسمه على كل شفة ولسان، وصار مطلوبا لدولة السبعينيات..
غادر أبو محمد سرا. توارى عن الأنظار. ترك زوجته وأولاده وإختفى. صار يزور عائلته سرا. كان مخيم برج البراجنة ملاذه. كان جاهزا للإختباء فيه. كان يسمع أن جميع المطلوبين يختفون في برج البراجنة. يتوارون فيه من وجه العدالة. كان المخيم ظهرا لكل مطلوب للعدالة.
لم يعد يأتي أبو محمد عائلته بباب التبانة إلا سرا. أعلم زوجته بمكان وجوده. أعلمها بمخبئه. وأن الدولة تطلبه. وحملها وطار بها إلى برج البراجنة. صار وراء حائط المخيم. صار وراء أسوار العدالة. صار وراء أسوار السبعينيات.
تركت أختي عنوان بيتها في برج البراجنة عند أمها في القرية في عكار. وصرت كلما غادرت بيروت إلى طرابلس، تلح علي، أن أزورها. أن أطمئن عليها. حملت العنوان تحت جلدي. تحت ضلوعي. خبأته جيدا، عن عيون رجال الأمن. عن عيون جميع المفارز الأمنية. لأن الأمر خطير للغاية. وأخشى ما كان يخشاه أبو محمد ومعه عائلته، أن يدخل السجن، بعد أن كان واحدا من قبضيات المدينة. كانت القبضنة سيرة حياته كلها. فكيف يعيش ذئب المدينة ، ذئب أحيائها، ذئب القرى. ذئب حي التنك، في قفص. ثم يعرض نفسه لجميع من يزوره. يعرض نفسه، لجميع زوار السجون. يعرض نفسه للشماتة.
كانت حماستي شديدة، لأعرف برج البراجنة. ولأعرف مخيم برج البراجنة. ولأعرف المقاومين والمقاولين والهاربين والفارين، والمتوارين من القبضايات، عن وجه العدالة، خلف سور السبعينيات، في برج البراجنة.
كانت السيارة التي إنطلقت بي من ساحة البرج في بيروت، إلى برج البراجنة، تختفي في الطريق المتعرجة بين الجنائن والبساتين والكروم. كانت الأسيجة عالية حولها. لا أذكر أني رأيت إلا الصنوبر والتراب الرملي وشجر الصبير. كانت المحلة جنة خلف بيروت في الضاحية الجنوبية. وصلت إلى الحي السكني، الذي تواريه الأشجار العالية من جميع الجهات. كانت الطريق الترابية التي قادتني إلى الغرفة والتخشيبة بجوارها في برج البراجنة، تتعرج بي ذات اليمن وذات الشمال. رأيت سيدة تنزل من بيتها العلوي، على الدرج. تختال زينة. كأنها ملكة منسية هناك، من ملكات برج البراجنة. إنتظرتها حتى صارت مقابلة لي. سألتها عن أختي. قالت لي أنها تعرفها. دلتني على تخشيبة وما يشبه الغرفة. مشيت بكل تؤدة خلفها، حتى وصلت إليها.
عرفت بيتها، من مكنسة الدار. من نظافة الدار. قلت في نفسي هذة هي عادتها. ثم إعتلقنا.
خرجت إلي ولهى. أمضت هنيهات طويلة وهي تسألني: كيف وصلت. وكيف سألت. وكيف إهتديت إلى مخبئها. فزوجها مطلوب لدولة السبعينيات. ويا ويلها!
كان زوجها المطلوب للعدالة، منهمكا في صناعة “المناقل”. في صناعة كوانين وأوجاق التدفئة. فالزمز في تشرين. والناس تستعد للشتاء. كان يصنعها من مهملات التنك. ومن مهملات الحديد. ومن مهملات الألمنيوم والإستنلس. بل من مهملات سائر المعادن. فتدر عليه الذهب. رأيت رجلا آخر غير صهري الذي أعرفه. ذهب العناء بالأناقة وبالقبضنة. صار سنكريا مدمنا على التعب. صار تنكجيا، يحدب على صنعته، من الصباح حتى المساء، دون كلل أو ملل.
كانت دارة برج البراجنة، تتسع لحرية رجل هارب من وجه العدالة. كانت صنعته، كافية للمعاش. وكان ينتظر الحكم من قوس المحكمة.
إتخذت دارة برج البراجنة في حي التنك، مسكنا لي، لعام. كنت أتابع دراستي. كنت أتابع تدريسي. كنت أخرج بسيارات الأجرة من دارة برج البراجنة، إلى محلة الأونيسكو. إلى ساحة البرج. كان برج البراجنة مفزعة لغير أهله. إلتحق برج البراجنة بالمخيم. صارت المحلة كلها تعرف بمخيم برج البراجنة.
كانت العشوائيات في السبعينيات من مواصفات برج البراجنة. “ذهب الذين يعاش في أكنافهم.” كانت العشوائيات تطغى على المحلة. على الحارة. صارت عمائر الباطون تتعالى. فتختفي البساتين والجنائن والكروم، شيئا فشيئا.
لا زلت أذكر تلك العمائر العذبة، تتوزع هنا وهناك وهنالك في برج البراجنة. لا زلت أذكر عذوبتها. لا زلت أذكر عذوبة السبعينيات.عاما بأكمله، كنت قطعته، وأنا أتردد على أفياء برج البراجنة. على دارة برج البراجنة. وعلى بيوته. وعلى شارعه، وعلى ساحته. كان برج البراجنة، مجمعا، لكل من يطلب الراحة والهدوء، والبعد عن عيون الرقابة.
عام مضى وأنقضى، وأبو محمد ينتظر قوس العدالة. وحين سويت القضية، عاد أبو محمد إلى قريته. يتابع ما كان من عمله، في برج البراجنة. كانت دارته الصغيرة في برج البراجنة، مدرسة كبيرة له. علمته أن يصنع من مهملات المعادن، معاشه. معاش عائلة، عادت إليها كرامتها. عاد جبينه عاليا، يندى على خبزه. يندى على صاجه. فيصير الخبز ألذ وأطيب. يعود إلى الخبز طعم التعب. يصير للخبز طعم ملح التعب!.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعةاللبنانية.
د. قصي الحسين