أماكن خاصة/ الحلقة 7 : بيت الأونيسكو
من لا يعرف، أن عالما جميلا، دنيا جميلة، كانت قد نشأت حول الأونيسكو في بيروت منذ تأسيسها في العام1961. فكانت أن أخذت المحلة إسمها. صارت تعرف منذ ذلك التاريخ، بمحلة الأونيسكو.
هذة المحلة سرعان ما أخذت طريقها إلى العمران والتطوير، بعد إنشاء كلية التربية بمحاذاتها. وبعد نهوض كلية الآداب بقربها. وكذلك كلية العلوم، التي أسست على أرضها. وبعد ضم وزارة التربية والتعليم، إلى المباني، قبالتها. دون أن ننسى، ثكنة فخر الدين، أوثكنة الأمير بشير، حيث كان الجيش وحده، يمنح المحلة الأمان والإطمئنان، في عالم متحول من الحرب إلى السلام. كانت ثكنة فخرالدين، كما ثكنة الأمير بشير، عامل إطمئنان لتلك المحلة الرابضة فوق الرملة البيضا.
كنا مجموعة من الطلاب، جاؤوا من طرابلس لإستكمال دراستهم الجامعية. كانت جميع الأبنية السكنية المحيطة بالمحلة، هي بيوت للطلاب. وبيوت للأساتذة. وبيوت للعائلات الأجنبية. لا زلت أذكر بيت الشاعر أدونيس هناك، في محلة الأونيسكو. في المبنى الملاصق، لعمادة الآداب ومكتبة الكلية. كان أستاذا جامعيا، في كلية التربية. وكان طالب دكتوراه، في الجامعة اليسوعية. وكنت، من بين كثيرين من الطلاب، نؤمه في بيته، ونستمع إليه، كأننا في كافيتريا الجامعة.
كان سكني، مع زملاء الدراسة، قبالة مكتبة الكلية. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. وقبالة مبنى العمادة والإدارة. وبأزاء المبنى الأول لقاعات التدريس، في الكلية. كنا نصعد إلى الطابق السابع، بعد أن تفتح لنا “أم جورج”، باب المصعد حفاظا على سلامتنا. كنا نرى من الشرفة، المطلة على البحر، جميع المباني الملاصقة، لمبنى الأونيسكو. كانت الطريق العامة وحدها تفصل بيننا. كان الطابق السابع دارتنا التي إتسعت لنا، نحن الأربعة. غرفتان صغيرتان للنوم، وصالة صغيرة جامعة للطعام وللإستراحة.
كانت الشرفة تمنحنا وقتا ثمينا للمناقشات بيننا. كنا نجتمع إليها، بعد أن نؤوب من سهراتنا المتفرقة، أو الجامعة. كنا نسرح أنظارنا في الأفق الممتد إلى البحر. نخوض في أمواجه العاتية أو الهادئة. كانت الشرفة الصيفية، والصالة بإزائها، مساحة حرة وأرضا محايدة. وكانت مناقشاتنا، كما سهراتنا، تطول حتى آخر الليل.
كنا لا نجتمع معا، في هذة الدارة من الطابق السابع في محلة الأونيسكو، إلا على العشاء. كان عشاء واحدا. وسهراتنا متفرقة، أو معا. وعند كل صباح، ينزل كل منا في طريقه إلى الكلية، التي هو فيها: إلى الآداب، إلى كلية العلوم، إلى التربية.
كانت كلية التربية هي العاصمة للطلاب الجامعيين، يأتون إليها من جميع الجهات. من جميع المناطق. من جميع الكليات. كانت كلية التربية، منبت القيادات الطالبية، ومنشأ الحركات الطالبية، بعد إنحسار كلية العلوم وإنتقالها إلى محلة الحدث، في الضاحية الجنوبية- الشرقية.
من دارتنا في الطابق السابع، في محلة الأونيسكو، كنا نحن الزملاء الأربعة، ننظر في شؤون الكون، قبل أن ننظر في شؤوننا. كنا نريد أن نحل جميع القضايا الكونية والقومية والوطنية العالقة.
نذهب من هذة الدارة، كل صباح إلى صفوفنا الجامعية. نحضر الدروس. وحين نفرغ من شؤون الدراسة، نذهب معا إلى الحمرا. نتمشى من الأونيسكو، كما أربعة من القادة. نأخذ الطريق ألى فردان. ومن هناك إلى البيكاديلي. فنصير في مطاعم الحمرا. في مقاهي الحمرا. في كافيتريات الحمرا. في زواريب الحمرا. في دارات السينما والمسرح. يطول السهر بنا، ولكنا نعود، كما ذهبنا، ولو في ساعة متأخرة.
كنا نخرج من بيت الأونيسكو. نسلك الطريق إلى الروشة. نجتمع على رصيفها. نتأمل كيف يعانقها موج البحر. كيف يغسل كل يوم كعبتها. كيف يرمي عليها طرحة العرس ومناديل الحب والعشق. فنراها تلوح له ببيرقها. إذانا بل تعبيرا عن شدة عشقها. فنتركها خلفنا لشم النسيم، وننزل إلى مقهى الروضة. أو مقهى الغلاييني. أو إلى عروس البحر. إلى قاعة “معهد غوته”. هناك نستمع إلى محاضرة ناشزة. إلى محاضر، جاء من وراء العصر.
كان بيت الأونيسكو، منبتنا الأدبي والعلمي والشبابي والجامعي، بعد منبتنا العائلي. لا ندع فرصة تضيع منا، لحضور الندوات معا. في الندوة اللبنانية أو في الجامعة اليسوعية أو في الجامعة الأميركية. كانت دنيا بيروت كلها صغيرة. كأنها في قبضة اليد.
كانت طريقنا إلى الجامة العربية، من مستديرة حبيب أبي شهلافي الأونيسكو، أيسر الطرق وأسهلها علينا. كنا إلى مدرجاتها، إلى محاضراتها، نألف أيضا ما حولها. كانت الكافيتريات حولها مجمعنا. كانت المكتبات. تحتف بنا ونحتف بها. كانت الشوارع إليها من محلة الكولا، طريقنا لنهل العلم في أفيائها. وأما المركز الثقافي الروسي، فكان أقرب السبل إلينا. هناك في طبقاته، فوق بعضها، ندلف للسماع. كان السماع، كما المحاضرات، كما الإحتفالات، كما للمشاركات العالمية مطلبنا.
من دارة الأونيسكو، كنا نذهب إلى ساحة البرج مشيا على الأقدام، في صفوف المظاهرات الطلابية. نحاصر البرلمان. نشدد الحصار عليه. حتى يسقط كما نشتهي، من الداخل. نريد لطفولتنا، أن نلقنه دروسا في التشريع وفي الوطنية. دون أن ننتبه لمن وراءنا. لطالما وقفنا على جنبات تمثال الحرية، نطالب بالكرامة وبالسيادة وبالوحدة الوطنية. حتى خسرنا، ما خسرنا.
كان بيت الأونيسكو مبيتنا، حين نعود خاسرين في كل معاركنا مع الدولة. كانت أعقاب البنادق وخراطيم المياه الملونة، تلاحقنا حتى مبيتنا في بيت الأونيسكو. هناك تكون لنا إستراحة المحارب، علما وعلما مرفوعا بأيدينا، وحرية.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.