أماكن عامة/ الحلقة 9 : معرض الزهور
دعينا، عائلتي وأنا، وبعض العائلات الأخرى، من طرابلس، في25/5/2017، إلى معرض للزهور، ينظم في بيروت لمدة أسبوع. في حديقة سباق الخيل، خلف المتحف. ودعي إليه الناس عموما. كانت إذا، الدعوة دعوة عمومية. ودعيت إليه العائلات من بيروت والجبل ومن كل أنحاء لبنان. ما زلت أذكر كيف أصطف الزائرون جميعا، إلى درب طويل من الشارع الذي يربط، بين المتحف والبربير، قبالة قيادة منطقة بيروت العسكرية.
كانت الطريق إلى شباك التذاكر متعرجة، مثل طريق النحل. كان رسم الدخول ، إلى معرض الزهور قاسيا. ومع ذلك كانت الجموع تتدفق من جميع المدن. من كل أرجاء لبنان. تريد أن تزور المعرض. تريد أن تقف على عالم الأشجار الصغيرة، والكبيرة. وعلى عالم الأغراس الجميلة. وعلى عالم الزهور الرائعة. ومن كان لا يكفيه يوم لزيارة المعرض، كان يقيم فيه. يتردد إليه لمدة أسبوع.
أتينا إليه، مجموعة من العائلات بطرابلس إذا. تكبدنا المسافة الطويلة. وتكبدنا أقسى النفقات. كرمى الوقوف على معرض مختلف للزهور. إجتمع فيه كل المهندسين الزراعيين. وكل المهتمين بزراعة وصناعة مشاتل ومعارض الزهور. من مختلف أقضية محافظات لبنان، من أقصاه إلى أقصاه.
دخلنا فردا فردا من البوابة المخصصة للزائرين. وبيد كل واحد منا بطاقته. بطاقة الدخول. وفي جيبه أيضا الرسم الذي قطعه: رسم الدخول. وكان رسم دخول للكبار. وكان رسم دخول للصغار. وكان الدخول المجاني متاحا لجميع الأطفال، دون سن العاشرة، شرط إبراز بطاقة الهوية. كنا نمر على ثلاث حواجز، في غاية الترتيب والتنظيم والتهذيب. نريهم بطاقات الدخول. ونريهم الرسوم المدفوعة. ثم نحط في “الليجورة” العظمى، التي نصبت في أوساط الحديقة العامة، حيث معرض الزهور.
كنا ننطلق إذا، من “الليجورة”. نتوزع من هناك بكل حرية، في عالم مدهش من التنظيم والترتيب، لعالم مدهش أكثر، هو عالم الأشجار وعالم صناعة الغابات وعالم صناعة الحدائق. وعالم صناعة معارض الزهور. وعالم صناعة الجمال من صناعة معارض النبات.
كان هدف المعرض، إبراز الطاقة الجمالية للأشجار و للزهور. ولهذا كان مثل ذاك الحشد العظيم، لمختلف أنواع الزهور المحلية والأجنبية. كانت الزهور اللبنانية هي الغالبة على المعرض. تلك الزهور البرية. وتلك الزهور المدجنة. وتلك الزهور المهجنة. فقد ملأت جميع أصناف الزهور جنبات المعرض كلها. ملأت صحونه كلها. ملأت حوافيه كلها. نظمت الفراغات بعيون الزهور.
كان عالم الشجيرات الحرجية، وعالم الصنوبريات، وعالم العرائش المختلف، خصوصا منها، عالم عرائش الزينة، هي الغالبة، في معرض الزهور. فترى الشجيرات الخضراء الباسقة وقد نورت بأزهارها، في الموسم، حين تبسم الأشجار عن زهورها. وتضحك للمقبلين عليها. وكأنها ترحب بهم بعد طول إنتظار، أو بعد شقة طريق. بعد مشقة غياب. بعد إحتجاب طويل عن الأنظار والأبصار.
وكانت الأشجار والأزهار الإيطالية، كما الأوروبية منها، تتخايل للزائرين. يتعرفون عليها. يرمقونها بأنظارهم، ويتهاتفون، ويتهافتون. كانت مساكب الجمال الأوروبي المغناج للزهور وللأشجار، وللعرائش الغريبة، تخطف الأضواء. وتخطف الأبصار. كنا نعرف الأزهار والورود الأوروبية، وكأنها وصلت للتو إلينا، من أمستردام ومن هلسنكي. وكنا نتوقف عند بعض المغناج، من الأزهار الباريسية واللندنية. أو تلك التي وفدت إلى المعرض، بطائرات خاصة من عواصم الدول الأوروبية، من توسكانا ومن روما، ومن سائر البلدان التي إشتهرت بصناعة الجمال من خلال زراعة الزهور. كان معرض الزهور متنوعا. كان معرض الزهور عالميا. كان معرض الزهور في بيروت أخاذا يملأ العيون. وتكبر معه الصدور.
كانت الطبيعة اللبنانية، هي الغالبة على أرض المعرض. كانت الطبيعة اللبنانية غرضا، بل هدفا، من أغراض وأهداف المعرض. كان القيمون على المعرض، لا يتوانون في الشرح وفي التفصيل. وفي التفضيل. وفي تقديم الإرشادات والتوجيهات للزائرين. وفي تقديم النصائح لهم: أن الطبيعة اللبنانية الخضراء. أن الطبيعة اللبنانية الملونة. هي كلها من صنع أيديهم. فلماذا لا يقدمون على الإبداع في صناعات النبات، وفي صناعات الجمال: زهرا وورقا وسيقانا وأنابيب وأكفا صغيرة، وأصابع طرية وضمامات من نبات. وزهورا متفتحة من نور.
كنا نرى في المعرض، مساكب الورود المتعرجة. مساكب الجمال المغناج. كنا نراها، وكأنها قطعت من القلوب. وكانت النساء كما الأطفال، كما الرجال، تستوقفهم الشجيرات الصغيرة محملة بالثمار. كانت أشجار النخيل الباسقة، قد إستلقت على منصات الرافعات. كان الباعة المزارعون، يعرضون علينا بعض البذور، وبعض الشتيلات بالمجان. كانوا يريدون تشجيعنا، لصناعة الجمال في دورنا وفي بيوتنا. كانوا يحرضوننا على صناعة الجمال، بالنبات. على صناعة الجمال بالشجيرات، بالعرائش، بالزهور وبالورود.
معرض الزهور، في حديقة ميدان سباق الخيل، في بيروت: 25/5/2017، لم يتكرر بعد في لبنان. كان آخر معارض الجمال في بيروت. بعده صارت المدينة إلى الذبول. تراها، تذبل شيئا فشيئا، حتى ملأتها النفايات. حتى تهالكت حديقة سباق الخيل في بيروت، خلف المتحف، قبالة البربير، وتحت أعين قيادة المنطقة العسكرية في بيروت.
حين تفكر في متحف للجمال، ما الذي تتصوره. حين تفكر في معرض للزهور، ما الذي يمكن أن تتصوره. ” بلاد تغير سكانها والنجوم قرى”. يقول محمود درويش. لكن بيروت التي نعرفها لا زالت في البال، من خلال الذكريات. من خلال الذكريات الإستعادية. نعيدها على أنفسنا، كلما إشتقنا إليها. ولهذا نحن اليوم، نستذكر معرض بيروت الأخير للزهور، بعد ستة أعوام، معرضا إستعاديا. فهل نحن نحتاج، إلى جرعة جميلة من الذكريات. هل توقف الزمن بالجمال عندنا. وهل أصبح المتاح إلينا من معارض الجمال، وقفا على معرض تذكري إستعادي. هل صرنا نعيش كل يوم في بيروت، كمن يعيش في الذاكرة. هل صار حكما علينا، أن ننعش الذاكرة، حتى لا تموت عندنا، مدينة إسمها بيروت. شيء كهذا يمزق القلب.
شيء كهذا. بل أمر كهذا، يدعو حقيقة، إلى البؤس. إلى الإستهجان. إلى البكاء. شيء كهذا يدعو إلى الرفض.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين