أماكن عامة/الحلقة 8 : صيدا الإستراحة
في أواخر الستينيات، كنت أزور صيدا إسبوعيا. أو أقله، في الشهر مرة أو مرتين. وذلك لمدة عام بكامله. كنت يوم ذاك، مدرسا في الجنوب. فقد إعتدت العبور، في الصباح وفي المساء ، في الشارع الذي يشق وسطها التجاري، من ساحة النجمة بإتجاه الجنوب. كان هذا الشارع، تماما كما هذة الساحة، لمما يحفز للنزول إلى الأرض من الحافلة، لتقبيلها. كانت الأبنية المتقابلة، كما المحلات المتقابلة، كما الرصيفان المتقابلان، والزواريب التي تتفرع عنهما، من أجمل ما تكون عليهما الشوارع، في المدن اللبنانية. أجد فيها متعة النظر إلى الشرفات وإلى الواجهات وإلى الأرصفة. كنت، كلما كانت الحافلة عالية، أقف قليلا، وأسرح نظري مثل طفل صغير إلى الجهة المقابلة. فيعود إلي النظر، وقد إمتلأ بالأزاهير والألوان. وبرائحة البحر، الذي يتضوع بعطر عرائسه، خصوصا عند الظهيرة، وقبيل حلول المساء. علمتني ساحة النجمة، كما علمني شارعها إلى الجنوب، متعة النظر إلى الأشياء. إلى السواكن. إلى النسيمات. إلى عجقة مختلفة في سوقها التجاري البسيط، عما كنت قد عرفته سابقا، في شوارع طرابلس وصور وبيروت. كانت ساحة النجمة في صيدا، لها نكهتها الخاصة في قلبي. تختلف كل الإختلاف، عن نكهة ساحة النجمة بطرابلس. أو عن نكهة ساحة النجمة في بيروت.
كنا مجموعة من المدرسين الشماليين، الذين يدرسون في الجنوب. كنا نتواصل دائما مع بعضنا، بإعتبار منشئنا في الدراسة، وبإعتبار تعارفنا في الحافلة. وبإعتبار الزيارات المتبادلة، التي كنا قد إعتدنا عليها، في مدارس الجنوب.
كانت صيدا عاصمة الجنوب. لطالما تواعدنا للنزول من القرى الجنوبية إليها. خصوصا من كان منا مدرسا في قرى قضاء صور. كنا نريد أن نتعرف إلى تلك المدينة الساحرة، في برها وفي بحرها. في شوارعها وأرصفتها. في أبنيتها وخاناتها. وفي أسواقها القديمة. وفي مدخلها المميز عند جسر نهر الأولي. كانت غابة النخيل هناك، تهتف لنا من بعيد: هاكم وصلتم إلى صيدا. فأهلا وسهلا بالقادمين وبالوافدين وبالزائرين.
كان شاطئها الذهبي يتلألأ أمامها. كان رمله الأصفر، يبدو من بعيد، كمنثور الذهب. كان مبنى دار المعلمين والمعلمات على الشاطئ الشمالي منها، جاذبا لنا. لأننا كنا من المدرسين. يهتف قلبنا له، حين نرى ملعبه، يشتعل بالشالات وبالجدائل، وبالأكف الناصعة الواعدة بجيل جديد. وبتربية راقية، هي من صنف التربية التي علمتنا: مهنة التعليم الراقي الجديد.
كذلك كانت قلعتها على البر وفي البحر، وبينهما الجسر الحجري، بقناطره، تشد أنظارنا إليها. فتجعلنا نديم النظر، مرارا، ونمعن في التطلع إلى الأفق والموج، والسحر بينهما يتعانقان في البعيد البعيد.
كان شاطئها لافتا حقا. ما كانت تسقط عليه ورقة. ولا كعب سيجارة. وكانت مسامير الشوارع، هي التي تحدد المرور. وكانت إشارات السير، مضاءة في الليل وفي النهار. كانت صيدا، لؤلؤة. منارة. ساحرة حقا. كانت صيدا مدينة الأنوار. من عصر صيدون، حتى عصر أرتحششتا والإسكندر الكبير.
كان ميناء الصيادين في صيدا، من أجمل الموانئ على البحر. وكانت غلاله اليومية من السمك الصيداوي، من أعظم الغلال. وكانت مراكب الصيد في الميناء، تخرج بعد منتصف الليل إلى البحر، ولا تعود إلا مع إرتفاع شمس النهار، محملة بالغلال الوافرة. كان بحر صيدا، من أغنى البحار بالأسماك. فكان التجار يؤمونها من بيروت، حتى يأخذوا أطيب أنواع السمك. وألذها على الإطلاق.
كان شاطئ صيدا متصلا، بلا إنقطاع. وكان رملها متصلا بلا إنقطاع. ما كانت التعديات بعد، قد وقعت عليها. وما نالت منه بعد، الإعتداءات.
كانت المدارس الرسمية في صيدا أنيقة للغاية. وكذلك مدارس الإرساليات. كان التلاميذ لا يدخلون إلى الصفوف ، إلا على وقع النشيد الوطني.
كانت المدينة القديمة في صيدا، تشد الزائرين إليها من بعيد. كان مربعها، كما مرابعها من الدرر الفريدة، التي إنقطعت عبر التاريخ القديم، في بناء المدن. وكان حي الأمير فخر الدين، بمبانيه التراثية، لا زال ماثلا للعيان. أما خان الإفرنج، فكان يقصده الناس من أقاصي الأرض، للوقوف على أجمل درة في العمارة اللبنانية المطعمة بفنون البناء الحديث.
كانت مواقف السيارت، فخمة للغاية. وكانت الحافلات تصطف، في محطاتها. تنظم النقليات بين صيدا وبيروت. وبين صيدا وصور. وبين صيدا وجميع القرى التي تقع شرق صيدا وصولا إلى جزين ونيحا الشوف، كما الشوف الأعلى. كانت طريق جزين وكفرفالوس وروم ومرج بسري، تهتف للزائرين. وكذلك كانت السيارات تتسلق طريق الغازية، والمية ومية والصالحية ومجدليون. فتراها وهي تنزل من القرى المعلقة في الجبال، وكأنها من العناكب تسير على طرق من لعاب الحرير.
كانت المحال والمعارض والمطاعم في صيدا، تشد أنظار الزائرين والوافدين إلى المدينة. وكانت إستراحة صيدا، جميلة ونظيفة ومتألقة. كانت تعج بالزائرين. تقدم لهم الأطباق الشهية. فتظل في ذاكرتهم لسنين وسنين طويلة. كنا نرى الزائرين والوافدين يتحلقون على الطاولات عند شمس الظهيرة، فلا نعرف كيف نعد الشموس والعرائس، تحت المظلات الملونة الجميلة. وكانت محال الحمص والفول، ومحال الفلافل، نعرفها من بعيد. فنرى الناس أفواجا إلى ضوء نارها، منذ الصباح الباكر، وحتى المساء الآفل بلا مواعيد.
كانت صيدا ذاكرة الجنوبيين. كانت عاصمة الجنوبيين. كانت كرامة الجنوبيين. كان الجنوبيون بحق، يعشقون مدينتهم صيدا. كانوا جميعا بحق، من عشاق مدينة صيدون القديمة. ثم صاروا من عشاق صيدا. كانت صيدا لؤلؤة فريدة على صدور الجميع. وكلهم يحلفون بحياتها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.