” الصّوت الرّوائيّ بين تشظّيّات الأنا وأحاديّة الآخر “
في المجموعة القصصيّة “على كتف هاوية” للكاتبة المربّية “مهى جعفر”
( قراءة للكاتبة والشاعرة ملاك درويش )
-×-×-×-×-×-
من الكتب المختارة من قبل ذائقتي الأدبيّة -بعد جولةٍ حافلة في معرض بيروت الدّوليّ للكتاب العام المنصرم- المجموعة القصصيّة الموسومة بـ “على كتف هاوية” الصّادرة عن دار البيان العربيّ للطّباعة والنّشر والتّوزيع، للصّديقة العزيزة “مهى جعفر”.
وعادةً بعد قراءتي لأيّ كتابٍ لا أبطل مفعول السّحر-التّشويق- عبر إفشاء مكنوناته أمام القارئ، بل تجدني أقف عند المحطّة الّتي أبت إلّا أن تستضيفني في رحابِها؛ لأنتشيَ بوصفي قارئة بدايةً، فكاتبة، ثمّ ناقدة.
وكان للصّوت الرّوائيّ النّصيب الأوفر من قراءتي اليوم، لما حمله من إشكاليّة تستوجب البحث في أبعادها، ولعلّ البعض سيستغرب لمَ الرّوائيّ وليس الرّاوي، غير أنّ القراءة ستحاول تصويب البوصلة..!
من يُطالع نصوص هذا الكتاب سيلحظ حتمًا تعدّد الأنماط الأدبيّة وليس السّرديّة فحسب، إذ إنّ الكاتبة “مهى جعفر” جمعت فيه إلى جانب العديد من القصص القصيرة، نصوصًا هي أقرب إلى المناجاة والوصايا والوصف الوجدانيّ، والحوار المسرحيّ منها إلى القصّة، وجلّها تستعرض قيمًا تربويّة وإنسانيّة في قالب أدبيّ أنيق.
أمّا بالنّسبة إلى القصص فنقع على الحقيقيّة والواقعيّة، والمثل الخرافيّ، ولي وقفةٌ خاصّة مع الحقيقيّة والواقعيّة منها، لأطرح ما يلي: إلى أيّ مدى انصهر صوت الرّوائيّة وصوت الرّاوي؟ وما الأبعاد الّـتي جذّرها هذا الانصهار في فضاء المنظور الرّوائيّ؟!
عادةً ما يبتعد السّاردون من نمط الرّاوي العليم المساوي للشّخصيّة والمتجاوز لها في غير موقف، كي لا يقعوا في حفرة التّبئير، فيستحيل النّصّ وسيلةً لتفريغ أفكارهم ورؤاهم بشكل صريح؛ لأنّ ذلك يُفقد النّصّ ميزة التّعدّديّة الـّتي تفتح نوافذه على تأويلات عديدة، وتاليًا قراءات أكثر غنىً.
غير أنّ الصّوت الأحاديّ في غالبيّة قصص الكتاب جعلها بوتقة واحدة، تشكّل مجتمعة سيرة ذاتيّة، نتعرّف من خلالها إلى “مهى” الإنسانة والطّفلة والمراهقة والزّوجة والأمّ، والمعلّمة. فإن صحّ التّعبير، هذا التّحيّز إلى الأنا وصراعاتها، شطر المجموعة نصفين، بل وعالمين؛ عالم الكاتبة المتشظّي والمثقل إزاء عالم الواقع المتحوّل زمنًا، والثّابت رؤية، وعقيدة.
غلاف المجموعة القصصية للكاتبة مهى جعفر
لذا، تكمن حنكة الكاتبة في تسويغ الأحاديّة من المنظور الرّوائيّ بالصّوت الدّكتاتوريّ الّذي ينخر فضاءها الزمكانيّ، ذلك أنّها حتّى في بعض القصص الـّتي توارت فيها خلف كواليس الشّخصيّات (الرّاوي لا يساوي الشّخصيّة)، نجدها تلبسها هويّة رؤية توّجتها مذ أعلنت حربها على الواقع الموبوء بداء الذّكورة؛ ذلك أنّها قالت في نصّها “الذّكورة”: “… هنا تكمن قمّة الاستذكار، أي الذّكورة المُدّعاة، بإهانة الزّوجة، ليشعر بتفوّقه على حواء تلك…”، ونقع في غير موضع، بل وفي غير نصّ، على مثل هذه الأحكام المعلنة على الواقع- الآخر.
ولا يسعني في غمار ما قرأت إلّا أن أضيء على كثير من الميزات الّـتي تُسجّل للكاتبة بصمتها في عالم الأدب، ومن أبرزها:
معجم لغويّ لافت، إذ نقع على مسمّيات فصيحة ودقيقة لكثيرٍ من المدلولات المجتمعيّة والنّفسيّة والتّربويّة، وهذا إن دلّ على شيء، فعلى الثّقافة العالية الّـتي تتحلّى بها الكاتبة.
غنى قصص المجموعة، وبخاصّة قصص(المثل الخرافيّ) بالقيم التّربويّة الّتي يصلح أن تدرّس للمرحلتين الابتدائيّة، والمتوسّطة.
الجرأة في الإفصاح عن مكنونات الذّات، وخبايا المجتمع الّذي تؤدّي فروض الطّاعة في معابده.
قصّة “عروس الفيحاء” الّـتي استلّتها من عمق الوجع، وأصابت بها مدامع البعد الإنسانيّ.
خلاصة القول، لكلّ كاتبٍ أسلوبٌ يتفرّد به، ويجذّف باحترافه إلى مرسى الذّائقة الأدبيّة. فليس هناك قاعدة مُنزلة في فضاء الإبداعيّة بعامّة، والسّرديّة بخاصّة، شريطةَ أن يحفظ ماء وحه الأدب.
الناقدة ملاك درويش مع الكاتبة مهى جعفر
استكشاف ال”هاوية” في ثقافتنا،هو خطوة أولى نحو التصويب.