الشاعر مردوك الشامي يقرأ الكاتبة أماني غيث في ترجمتها لديوان ” آنّا أخماتوفا ” :
أنّا أخماتوفا، أسطورة عصرها
وأماني غيث بكتابها عنها ، تُعيدُ أسطرتَها من جديد
حين تترجمُ شاعرةٌ لشاعرة تتقمّصها وتجعلنا نقع في حبها .
لغة شعرية عالية اعتمدتها أماني في ترجمة تلك المقطوعات الشعرية، فجاءت الترجمة أمينة تكسر مقولة”الترجمة خيانة”.
الكثير من قصائد أخماتوفا نالت حظَّها من فرادة أماني الشعرية ، فجاءت أكثر سلاسة وقبولاً عند القارىء العربي
كتب الشاعر مردوك الشامي :
تعاكس أماني غيث مقولة ” الترجمة خيانة” ، في كتابها “ملكة النّيفا آنّا أخماتوفا ” الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت ، فهي لا تخوض غمار الترجمة بقصد الأمانة الحرفية أو النصية فقط، هي تصنع عالماً مكتملاً للشاعرة الأوكرانية الأصل أنا أخماتوفا، تعيدها إلى الحياة بالمعنى الحرفي، من خلال ترميم سيرة ذاتية لها ، سيرة مستقاة من قصائد الشاعرة، ومن بعض ما وصل عن مشوارها في الحياة..
هذه السيرة، تخرج من الفردانية الأخماتوفية، لتؤسّس لسيرة زمن بأكمله عاشته الشاعرة، وسيرة شعراء تلك المرحلة، وحكايا الحرب والجوع والاضطهاد.
والواضح تماماً أن أماني أحبّتْ أنا أخماتوفا، أحبت تجربتها، وربما تقمّصت الكثير من جوانبها، لهذا كانت الترجمة مليئة بالحياة والصدق والاشتغال العاطفي والحيّ على الصورة ، صورة أخماتوفا وشعرها.
أنا شخصياً لم أسمع بالشاعرة ، قبل أن تضعها بين أيدينا أماني غيث، و أثقُ أن كثيرين مثلي لم يعرفوها، أو قرأوا لها، ربما تواجدت بالفرنسية ترجمات لشعرها، لكن أماني عرّبتها ، ودفعت بها إلى المكتبة العربية محفوفة بالألق والجاذبية.
في حوالي ال30 صفحة، تمهّد أماني للكتاب، تتحدّث عن الشاعرة، عن تفاصيل في حياتها، شخصية وشعرية، وتربطها بزمنها ذاك، بكل ما فيه من شعراء كبار، وأحداث، وكوارث.
أقول إن أماني كتبتْ بحب، لهذا أيّ قارىءٍ للكتاب سيقع في حب أخماتوفا، سيعيش تجربتها، سيصرخ لعذاباتها، ويتعاطف مع كلّ لحظة فرح وقهر عاشتها.
وفي هذا الاستهلال تاريخٌ عاشته روسيا والعالم في تلك المرحلة، استطاعت أماني أن تضعنا في دوامته، ودوائره الكثيرات، فشممنا رائحة البارود والدم ، وعاينا القتل والموت، والمظالم التي تعرضت لها الشعوب، وما كانت تعانيه المرأة في تلك المرحلة من أسرٍ وقمعٍ وإبعادٍ قسري عن الضوء.
غلاف الكتاب الذي ترجمته الكاتبة أماني غيث
ومن خلال سردية أمينة ودقيقة، نتعرّف على حياة أخماتوفا بكل ما فيها من سلبٍ وإيجابٍ، من تقلباتٍ، وضياعٍ في المشاعرِ، وانكساراتٍ ، ونبقى نحبها، ونرى فيها تلك المرأة الطويلة ذات الشعر الأسود والأنف المعقوف، وكيف حفرت لنفسها اسما مرموقا بين أهم شعراء تلك المرحلة، وكيف أَحَبّت، وأُحِبَّت، وتزوجت، وطلقت، وكتبت عن عسر زيجاتها، وموت أزواجها، وعن مشاعرها التي ما كانت تخفيها، بل تدفع بها إلى قصائدها دونما وجلٍ، لأنها كانت شاعرة حقيقية .. وإنسانا بلا حدود ولا قيود.
تزوجت أخماتوفا ثلاث مرات، غوميليوف الذي اسمته” الأوزة المتعجرفة، شيليكو التنين الممسك بسوط، بونين حزنها الزوجي الثالث. “وهذا دفعها للكتابة عن الكره والمنافسة بين الزوجين، وعن المعارك الشرسة والحرب البلا هوادة بين الشريكين، عن اللاحب ، والحب بلا أمل”.
ومن خلال سيرة أخماتوفا تأخذنا أماني غيث إلى عصر ستالين، إلى الإرهاب اللامحدود، إلى زمن قتل الكلمة، واغتيال الشعراء ..
تقول عنه أخماتوفا :” ستالين أكبر جلاد عرفه التاريخ، وأن جنكيز خان وهتلر ليسا إلا ولدين صغيرين في جوقته، كيف لا وهو الذي هجّر أربعة آلاف أديب وقتل 20 مليون إنسان، أضعاف ضحايا هتلر”.
ونتعرف في سردية تاريخية موثّـقة استقتها أماني من التاريخ نفسه، وكذلك من خلال قصائد أخماتوفا، وكتابات ورسائل لأصدقاءٍ لها وصديقات،عايشوا تلك المرحلة، على مجمل شعراء ونقاد وفناني ذاك الزمن، وعلى مناطق عاشت فيها أخماتوفا، وعلى سيرة جزء من هذا الكوكب المشتعل، وسيرة شعوبٍ سقطت تحت وطأة الحروب آنذاك.
أنا أخماتوفا، أسطورة عصرها، وأماني بكتابها عنها ، تعيد أسطرتها من جديد، عاشت ألف حياة، ولم تعش، وحين ماتت بكاها كثيرون.
في هذه المقدمة السردية للكتاب، تنصف أماني شاعرةً من الكبيرات، على المستوى الكوني، وتخطُّ لها مكاناً في العصر بعد رحيلها بأكثر من نصف قرن.
ماتبقى من الكتاب وفي أكثر من 350 صفحة ، تخطُّ أماني قصائد أخماتوفا ، منتقاة من كل كتبها، ومن نصوص نادرة لم تنشر في الكتب..
لن أتطرق في هذه العجالة إلى قصائد أنّــا.. سأترك لقارىء الكتاب الإبحار والتوحّد فيها، لكنني سأشير إلى اللغة الشعرية العالية التي اعتمدتها أماني في ترجمة تلك المقطوعات الشعرية، وإلى وضعها في تواريخها، وفي المواقيت والأمكنة، وكأنها تستكمل سرديتها التاريخية شعراً.
أنا لست ملمّاً باللغة الفرنسية، لكنني أثق أن أماني أضافت الكثير إلى شعرية أخماتوفا بنقلها القصائد إلى العربية..
وحين يكون المترجم شاعراً حقيقيا، وقف أمام نتاج شاعر آخر ليترجمه، يختلف الناتج، عن أيّ ترجمة لمترجم لا يقارب الشعرية ولا يعرف ما فيها من شرفات وفضاءات ومشاعر.
ولأني قرأت أماني الشاعرة ، وأعرف كيف تفكر وكيف تصوغ صورتها، وتركيباتها اللغوية ، أقول إن الكثير من قصائد أخماتوفا نالت حظها من فرادة أماني الشعرية ، فجاءت أكثر سلاسة وقبولا عند القارىء العربي.
الكاتبة والشاعرة أماني غيث
كتاب ملكة النيفا – أنّا أخماتوفا، في طبعته الأولى 2023، يستحق أن يصل إلى أكبر عدد من القراء العرب، وأن تزدان به المكتبات، والذائقة المعاصرة، لأنه وبلغة فيها جمال وشاعرية، ومنطق سردٍ أخاذ، يقدم للقارىء العربي شاعرة تستحق أن نقرأها، ونتعلم من تجربتها ومسيرتها الكثير.
في حفل توقيع الكتاب في معرض بيروت العربي الدولي 64، ارتدَتْ أماني غيث زيّاً شبيهًا لما كانت عليه أخماتوفا في تلك الفترة..
كأنّ أخماتوفا كانت بيننا، وقّعت لنا كتابها، وكانت شاهدةً حيّةً أنّ الأرواح الجميلة والمتفردة والمتمردة ، تنتقل في الزمن والألم والأقلام والأوراق .
مقتطفات من شعر آنّا أخماتوڤا:
“في الشعر،
ينبغي أن تكون كل كلمة في مكانها الصحيح،
وكانّها تقف منذ ألف عام،
ولكن كأن القارئ يقرأها لأول مرة.”
“مذ كنتُ طفلة
وأنا أخاف الأقنعة.
كنتُ أشعر ولا أعرف لماذا
بظلٍّ غير مرغوبٍ فيه،
بلا وجه وبلا اسم،
إلى أن دسستُ نفسي ذات مرّة بينهم.”
“جميع الذين ماتوا،
أنا من دفنتهم بيدي،
بكيتُ على الجميع،
فمَن يبكي عليّ؟! “
ملكة النيفا – أنا أخماتوفا\ مختارات شعرية شاملة \
ترجمة وتقديم أماني غيث
في 406 صفحات قطع وسط
صادر عن منشورات دار النهضة العربية – لبنان
الشاعر والناقد مردوك الشامي