تمزق اللغة
ينقل هنري زغيب، عن الشاعر أراغون، في رسالته إلى حبيبته إلسا قوله: “إن الكتابة فعل إنقاذ من التمزق الداخلي. وفعل رفض المفروض. وفعل تمزق اللغة. وفعل الهرب من الإنتحار، وهي حالة الشاعر الملاحق الأول( بكسر الحاء)، والملاحق( بفتح الحاء) الأول.
إستوقفتني حقا، هذة الكثافة من الرؤيا/ الرؤية، في موقف الأديب من أدبه كله. من نهجه الأدبي. من نقد النقد. تساءلت: وهل الأدب إلا ذاك. كيف يمضي الأديب في الكتابة، وفي متابعة الكتابة، إن لم يكن يصيغ همه الكتابي، في أربع برهات، كما فعل أراغون.
أولا، إن الكتابة فعل إنقاذ من التمزق الداخلي. ذلك أن الكاتب، لا يحتاج إلى الكتابة، إذا كان مثل سائر الناس. فهو ينوف عليهم في الرؤيا/ الرؤية. التي هي الخيال الثانوي عند كولرج. بل إنه المخاض الولادي ذاته حقا. عبر عنه المتنبي، فوجده قلق الأديب. القلق الذي يصاب به الأديب، قبل برهة الكتابة. وأثناءها. وبعدها. لذلك نراه يعبر عن حالته هذة فيقول: “على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوبا أو شمالا”.
و أما خليل حاوي، فوجد صيغة أخرى، في نشيد الجسر، للتعبير عن التمزق الداخلي : “صرخة، تقطيع أرحام وتمزيق عروق. كيف نبقى تحت سقف واحد وبحار بيننا. سور…”
هذان الشاهدان الشعريان، يفسران ما يجده أراغون في نفسه، أديبا وكاتبا، من التمزق الداخلي. ويجد في الكتابة الحل. بل الكتابة، كما هي “فعل إنقاذ” للنفس من معاناتها. من “تمزقها الداخلي”.
فما معنى الأديب أوالكاتب، إذا لم يكن يحمل دمه في عنقه. إن لم لم يحمل صليبه على ظهره. إن لم يسق قلمه، من عمق القلب. لهذا ربما، صاح أبو شبكة على الشاعر. نهره. قال له:
“إجرح القلب وأسق شعرك منه/فدم القلب خمرة الأقلام. “
تقول قصيدة أبو شبكة على وجه مخصوص،
إن الشعر، أو الأدب، إنما هو فعل إنقاذ من التمزق الداخلي. وعلى الكاتب أن يولج نفسه في نفسه، ليغرف من بئر القلب، مخزونه اليومي، حتى يبرأ. فالكتابة فعل إبراء. فعل براء، مما يعذب الشاعر. مما يقلقه. مما يمزقه. مما يجرحه. مما يقلقله. مما يقتله يوميا. وهو في فعل الكتابة، يثبت لنفسه، قبل غيرها، أنه لا يزال حيا يسعى.
الكتابة إثبات الحضور الفاعل في الحياة، تماما كما يقول عصام محفوظ في كتابه: الإثبات الشعري. وكذلك في نفيها للموت. ولهذا نرى المتنبي يقول، في إحدى برهات تجلياته: “ذل من يغبط الذليل بعيش/ رب عيش أخف منه الحمام.”
الكتابة بهذا المعنى، أسلبة جديدة للمعارضة اليومية، للموت اليومي. هذا ما يفعله أيضا، عقل العويط، في كل مقالة يكتبها. في كل كلمة يدبجها. هذا ما يفعله هنري زغيب في أزراره. هذا ما كان يفعله جبران تويني في مقالته شبه اليومية. وقبله المؤسس الكبير غسان تويني. كانت الكتابة عندهما، نزيف يومي حتى إنغماس الشمس في بحر الشهادة.
أقول: هؤلاء الكوكبة، ومعهم سمير قصير، شكلوا جبهة المعارضة الحقيقية للموت اليومي. أسلبوا المعارضة بأسلوبهم. فما بلغوها، “إلا على جسر من التعب”.
لدى الثلاثة الأقطاب: غسان وسمير وجبران، نرى كيف إتصلت البرهة الأولى: بالبرهة الثانية: “رفض المفروض”. أما لدى عقل العويط، وهنري زغيب، فقد تجلت عندهما برهة التمزق الداخلي، بإتصالها ببرهة تمزق اللغة.
ذلك أن رفض التمزق الداخلي، إنما قد تجلى باللغة. بينما تجلى الإنقاذ من التمزق الداخلي، بفعل تمزق اللغة نفسها. ولو أنهم جميعا، كانت الكتابة عندهم، فعل خلاص من الإنتحار، حين كان يجد كل منهم نفسه، بحسب درجة تلبسه بالحالة الكتابية، ملاحقا( بكسر الحاء)، لأنه ملاحق( بفتح الحاء).
أزعم أن قوانين الكتابة عند أراغون، تفجر قوانين الكتابة عند أرسطو. كذلك تفجر، جميع القوانين التي تسير عجلة الكتابة الآلية الخشبية أو المعدنية: في المديح والهجاء والوصف والرثاء. بل هي تفجر عمودية الشعر القديم ومعه عمودية الشعر الحديث. بل عمودية الكتابة كلها، كما بلغتنا، في كتب الدراسة والتدريس، من المدرسة، حتى الجامعة. خصوصا أن معظم النقاد في القديم والحديث، وكذلك معظم الإدباء القدماء والجدد، كانوا قد إلتقوا حول نظرية إبن طباطبا العلوي، في كتابه عيار الشعر. سألوه عن الأدب، فأوجز نظريات اليونان والعرب، في قوله: ” النثر عقد محلول، والشعر نثر معقود.” فما غادر الجميع من “متردم”. بل ساروا على نهج عنترة، في مطلع قصيدته المعلقة: “هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل علمت الدار بعد توهم.”
كان أدونيس ممن طرحوا مسألة الشعر على بساط البحث، في كتابه المتقدم/ الأطروحة: الثابت والمتحول. كما في كتابه المتأخر/ الكتاب. قال أدونيس بضروة التمييز في الأدب: بين الأصول وتأصيل الأصول. والحداثة.
جاءت ضربة أراغون، ضربة لازب: كل هذا النوع من الأدب قديم. أو كما قال الشاعر متهكما: “قلقاس بقلقاس بقلقاس.” والرد على النقاد القدماء، كما الجدد، بإن ننظر إليهم، على قاعدة من أن “الكتابة فعل إنقاذ”. وفي برهة تجليات أدونيس يقول: “بدأوا من هناك. فإبدأ من هنا”. بمعنى آخر: لتكن الكتابة، مشروع الكاتب اليومي، ما دام هو: أي الشاعر نفسه، مشروع السلطة اليومي. أي أن الملاحق، هو الملاحق بحسب أراغون. فالكاتب، ب “تمزيق اللغة”، هو دوما، في صراع مع السلطة، ولم يدخل في يوم من الأيام، في المساومة،أو في الصراع عليها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
الكاتب د. قصيّ الحسين