رحم الأحزان ( بقلم دِ جوزاف الجميّل )
-×-×-××-×-
(قراءة في قصيدة”كلّ نساء الأرض أنا” للشاعرة إيفون الضيعة):
” كلّ نساء الأرض أنا”
كلّهم ولدتهم أمّهاتهم
وأنا ولدتني الوحدة
وما ازدحامي سوى خواء
وما صخبي سوى صمت..
كلّهم ولدتهم أمّهاتهم
وأنا ولدتني القصيدة..
بعد كلّ حرفٍ أموت
أمارس طقوس النوم سهوًا
لأعانق الضوء
كلّهم ولدتهم أمّهاتهم
وأنا ولدتني الحياة..
أسكبُ عطشي
في استدارة الكؤوس
وأُبعثُ ماءً..
عابرةُ الحياةِ أنا
ولا سبيل لي إليها..
امرأةُ التأويلِ../ امرأةُ الغمامِ../ امرأتان في امرأة..
ثلاثٌ… أربعٌ…خمس…؟!؟!
كلّ نساء الأرض أنا..
إيفون الضيعة
*شاعرة من لبنان.
-×-×-×-×-
كتب د. جوزاف الجميّل :
كل نساء الأرض أنا …عنوان قصيدة الشاعرة إيفون الضيعة. والعنوان اختصار لعالمين متوازيين: النساء والشاعرة المتمثلة في أنا حضورها بحثاً عن المطلق، واتحاداً بالمجهول.
كيف تصبح الأنا مساوية للجماعة؟ بل كيف تختصر نساء الأرض في امرأة واحدة؟
الأنا وال”هن” ائتلاف واختلاف. لا حلوليّة وإن حاولت الشاعرة تجاوز الشكل إلى المضمون.
الأنا مستقلة عن النساء بحثا عن تفرّدها من دون انعزال أو اختزال.
هي سياسة الفرسان أن تكون الجماعة في خدمة الفرد.
وتظهر المفارقة بدءا من الولادة، في رحم الوجود. ولادة النساء من الأمهات وولادة الشاعرة من الوحدة/القصيدة/الحياة. أما سبب التميز هنا فهو الشعر. الشعر الذي يختصر الأنا، كما النفس عند ابن سينا، في المكان الأرفع.
في قصيدة الشاعرة تناصّ ومقولة الإمام علي: كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
ولادة الجسد جسد، أما ولادة الروح فحياة. الولادة البيولوجية تُشابِه بين المخلوقات. أما ولادة الروح/ الوحدة/ القصيدة فهي ولادة متمايزة في الأهداف والغائيات. ولادة النساء من الأمهات، في تسلسلية واغتراف لملذّات الفرح والوجود
ولادة الجسد سَير في القطيع. قد يكون فيها الراحة الماديّة. أما ولادة الروح ففيها الوحدة إلى حدّ الجنون، وفيها الإبداع، على بيدر الشعر، وهي تجسيد للحياة بمرارتها والحلاوات.
خمس مرات تكرر ضمير الأنا. وهو دائما في موضع الابتداء، بحثًا عن الخبر الهائم على أدراج الأكوان الليلكية.
خمس مرات تحاول الشاعرة عبرها مواجهة الوحدة وجرح القصيدة وسخرية الحياة. ورقم خمسة كالشاعرۃ عدد أساسي أصلي يقاربه الندى والسكون. لا ينقسم إلا على ذاته، ولا يكتفي إلا بذاته والذكريات.
يزدحم الناس حول الشاعرة فتشعر بالخواء.
يضجّون حولها فلا يخترق أذنيها إلا الصمت والهدوء. صمتُها ازدحامُهم والهراء. وحدتها ضجيجٌ يعانق السماء. ضجيج الفكر لا ضجيج اللسان.
أمُّها القصيدة لا حواء.
ولادتها تنتهي بانتهاء القصيدة. تنام كأهل الكهف لتقرأ النور الثائر على الظلام. ديوانها العطش والتجدد. تتجدد كالحياة. شعارها الحكمة الوجودية التي تقول: نحن لا نشرب من مياه النهر مرتين..
أمُّها الحياة. وحياتها صحراء تمتشق نخيل الواحات لتحوّل عطشها إلى اكتفاء، ورمادها إلى طائر فينيق. صحراؤها تكتفي بذاتها حلم ارتواء، وعبير ذكريات.
أمُّها امرأة لا تشبه حواء إلا ساعة احتراق الأنا الصغرى لتصبح عنوان تجدّد خارج ثنائية الوجود والعدم.
هي امرأة التأويل. سلسلة بشرية تعبر الوجود إلى وجود افتراضيّ تتناسخ فيه النساء خمس مرات. يتساوى فيهن التأويل والغمام. وفي كلتا الحالين ابتعاد مغلّف برايات الصمت والسلام.
بين إيفون الضيعة والشعر طاقة من الوداد وطاقات. طاقة تتفجر تأويلا تلو تأويل، في كتاب الوجد والمجد وأحلام سيدة النجوم.
وتنفجر الأنا، في نهاية المطاف. تتحوّل أنا الشاعرة إلى أنا الضيعة التي حملت اسمها في اللقب المجنون. الضيعة التي تتشظى أحلام وجد عرسه ثالوث الوحدة وسط التنوع، والقصيدة التي لا تشبه إلا ذاتها، والحياة التي لا يعرف قطارها التوقّف إلا حيث تنتهي المسافات.
المرأة / الشاعرة/ القرية إكليل فخر هي، ورسالة تولد كالثورة من رحم الأحزان. في ولادتها إعجاز ثالوثي . وفي موتها انبعاث كطائر فينيق الماء.
إيفون الضيعة، أيتها المتمرّدة على الحبر والحب، أراك ترفضين الاستسلام للعنة حواء، لقانون يحوّل المرأة إلى رحم يخضع لسياسة القطيع، منذ الولادة. من رحم القصيدة تولدين، والشعر قاموس المتمردين، من أجل غدٍ أفضل، لا تحرقه الدموع، وشعرٍ لا يهزمه التأويل، أو التجريح والمحاباة.
سيدتي، يا ساحرة الأنا، ومشعل الرجاء، أراك تخطّين على قلوبنا سطورًا حبرها الأنا الذهبية الخصال والنصال، في عرس الكلمة الخالدة. وأبعد من قاموس الثورة صولجان بلون الحب والإباء.
د. جوزاف ياغي الجميّل
.