قراءة نقديّة بشعر دوريس خوري
بقلم د. دورين نصر
أنشدت دوريس خوري على لسان “جَفرا”:
أنا عصفورةُ المنفى مِنكَ حبيبي
عُشُّك الضّائعُ في صدري
أُطلقُه لك ساعة تشاء
أرسل لك جناحيّ كي تنامَ
افتَح لي بابَ سمائِك السابعة
كي تُزهرَ رياحيني
وفوق صخرتك أبني قصيدتي
وغنّت فيروز “للأخوين الرحباني”:
“أنا يا عصفورةَ الشّجنِ
مثلُ عينيكِ بلا وطنِ
أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ
أنا عيناكِ هم سكني”
كما غنّت لسعيد عقل:
“لي صخرةٌ عُلّقت بالنجم أسكُنُها”
وإذا كان جبران قد طلب من حبيبته “مي زيادة” أن تنامَ ليحرسَها، فإنّ الّلاجئ يُخاطب “جَفرا” قائلاً:
“نامي حبيبتي كي أحرسَك”
أمّا خليل حاوي، فقال في قصيدته “بعد الجليل”
“بارك النّسل العتيد”
والّلاجئ يقول: “باركي خبزي وسمكي”
هذا التوارد في النّصوص، أو كما أسماه د. عاطف الدرابسة “التراسل في النّصوص”، يضعُ المتلقّي في حَيْرة، إذ لا يعرف بأيّ عينٍ سيقرأ هذه الشّاعرة التي أعادت إنتاج الأسطورة تارةً، واتّحدت بالمكان والوطن طورًا.
وإذا كان إيروس Eros نفسُه، مزيجًا من الإثارة والعاطفة، الشغف والرومنس لتحقيق المتعة المزدوجة، أو كان يمثّل نزعة الامتلاك بقصد الاكتمال، والطاقة التصاعديّة للروح بحثًا عن ذروة متمثّلة في مثال، تعمل دوريس خوري على صياغة الحبّ في أشكال شتّى ومن عناصرَ مختلفة، فصورة المحبوب مصحوبة بسينوغرافيا دقيقة، تتداخل فيها الأنوثة مع الغواية، فتقول:
“ها كَبُرَت أنوثةُ مفرداتي
وحَرْقةُ الوردِ لشمّ عطري
هيّا أُلبسْكَ ثوبَ مطري
كي أُلغيَ طفولتي
وأكتشِف فيكَ أبعادَ لغتي وقاموسَ غوايتي”
إنّها فنيّة التوالي، مع أنّه توالٍ خطرٍ حيث بين العبارة والعبارة مِهواةٌ أو سلّم يهبط فجأة، هبطةً تِلوَ هبطة، لكن نافذةً بعد نافذة تعبرُ الأحوالُ، تعبرُ مفترقات، وعندها تتواجه الأحوال كما في قاعة متعدّدة المرايا، تأخذنا في رحلة بين الوعي واللاوعي.
جَفرا، تلك الفلسطينيّة الفاتنة التي تجذب الّلاجئ، هي إنانا وعشتروت، فلا يردَعْه عن حبّها شيءِ، يقول الّلاجئ:
مالَكِ يا جَفرا للاجئٍ مثلي
يُسابق الطيورَ في الصباح
يسافر مع الريح
يجوب القِفارَ يبحث عن لقمة عيشٍ
يزرع بكفّيه حبّات قمح
فإذا كان الّلاجئ هو الإنسان الفلسطيني الذي شُرِّد من أرضه، فإنّ جَفرا هي الأمل المرتقب والفردوس المشتهى. هي الملاذ والحلم، إذ تقول: “هيّا اعبُر إلى منفاكَ”، حيث الإقامة الدائمة. هكذا تصبح المرأة رمزًا للمنفى والخلاص في الوقت عينه.
فرامبو يشرب كأسه الأخيرة، ويصعد إلى القمر، أمّا جَفرا فتستفزّ الّلاجئ للسقوط في منفًى جديد، وفي كلتا الحالتين: الصعود أو السقوط، ثمّة انفصال عن الواقع. فالّلاجئ يريدها دائمًا بمثابة الأرض البكر، التي لا تفرح إلاّ لقبلته:
“أعطيكِ قبلةً كي يتذكّرني
توتُ الجليل على شفتيكِ”
ما يحيلنا إلى ولّادة بنت المستكفي حين قالت:
“أعطي قبلتي لمن يشتهيها”
لكنّ التلاحم بين الّلاجئ وجَفرا هو تلاحم روحي وجسدي، هذا ما تختزنه البنية العميقة للنّصّ إذ يريد الّلاجئ أن يكون اللّقاء بينهما حسّيًّا وينفلت التعبير من كلّ الجهات، حيث يقول الّلاجئ:
“من بريقِ عينيكِ” جَفرا تشتعل حروفي / فيُضيء الكونُ نورًا وآياتٍ سماويّةً”
تتحوّل “جَفرا” في هذه الأبيات إلى إله يشعل الحروف، فتتنزّل من السّماء أسمى الآيات. وتجعلُ دوريس خوري لجَفرا، الأرض والوطن، بريقًا آخر، يضفي على القصيدة بُعدًا جديدًا، إذ تقول:
“لنشيدِكِ طقسٌ
لعرشِكِ صولجانُ
خلفَهُ يسيرُ البعلُ وموكبُ الجان”
فنحن ندرك جيّدًا، أنّ الإله بعل، هو سيّد لعوامل الطبيعة الفاعلة، فهو راكب السّحاب الذي يرسل الأمطار في أعالي السّماء، وسيّد البرق والصّاعقة. صوته بالرّعد المجلجِل وسلاحه العاصفة والطوفان، وصراعات بعل متعدّدة في الأسطورة؛ ولكنّ أبرزها صراعه مع الإله موت. فالإله بعل بقبوله الموت، يساوي نفسَه بالبشر، أمّا قيامته فهي وعدُ باستمراريّة الحياة على الرّغم من عارض الموت. وتوظيف دوريس خوري لأسطورة بعل وغيرها من الأساطير، هو نوع من التحدّي، لعلّها تبحث عن ذاتها في ذات الّلاجئ المنفيّ العاشق الحالم، وذات جَفرا، الوطن المعشوق.
وليست عودة الشّاعرة إلى الأساطير إلاّ لتؤكّد قوّة الانبعاث وغلبتها على الركود، يضاف إلى ذلك، ما تعبّر عنه الأساطير من أفكار الصّمود عبر دوّامة التغيير.
بالتالي، توسّلت دوريس خوري الصورة الرمزيّة والبنية الأسطوريّة سبيلاً للتعبير عن أزمة حضاريّة تنبض في أعماقها شهوة الحياة، وإن كانت تعني العجز والانهيار… فهي مؤمنة بأنّ الأرض والوطن سيعودان. كما ترى الشّاعرة الأمل المُرتقب في قصيدة “وعانقتني شمسها” التي وُسم الديوان باسمها. إذ يتحوّل الحبّ إلى قوّة فاعلة، فَتَخضرُّ الصّحراء وتتحوّل إلى جنّة ينبت فيها التين والزيتون والعنب. كما تردف قائلةً في قصيدة “يا بلادي أنتِ لي”:
“وإلى الهيكل أعدو
أعشق الحبّ وكلّ الأنبياء
أغسلُ الروح ليبقى طُهرَها يملأ الفضاء”
فالتحليق في سماء الشّعر هو تحليق في سماء الرّوح، إذ من بداية الديوان والشّاعرة تبحث عن حبٍّ طاهرٍ ينبعث من أعماق الروح.
أمّا فكرة الاغتراب فنلمسها أكثر في ديوان “لنشيدِك… طقس”، فهي في بداية الديوان تُهديه قائلة:
“إلى من أهداني بُوصُلَةَ بلادي
فتربّع على عرش قلبي
إلى من أعطاني معنًى جديدًا للحياة
إلى المنفيين في بقاع الأرض
إلى المشرّدين عن أوطانهم
يحلُمون بانفراج كَرْبِهم
أُهديهم كتابي لعلّه يكون
أنيسَ وِحشتهم وسلوى كَرْبَتهم”
فالغربة عن الشّاعرة أرض خصبة، نما الشّعر في تربتها. والواقع إنّ معاينَتَنا لمختلف القصائد التي تتحدّث عن الغربة، مكّنتنا من رصد مجموعة من “الثيميات” المتصارعة والمتنافرة في ما بنيها، وقد تأرجحت بين الوطن والغربة، الحبّ والفُراق، البقاء والرّحيل، لكنّها انصهرت في بوتقة واحدة لتقلّص المسافة بين أنا الشّاعرة والوطن في مختلف النصوص الشعريّة. تقول في قصيدة “لبنان يا وطني”:
“طرقتُ بابَك يا وطني
جاءتني ريحٌ تتساءل
من أنت؟
أجبتُ: أنا بنتٌ
للوطن الغالي أتنهّد
جئتُك راجية منك العطفَ
فهل أقبلُ
وطني أنت يا لبنانُ
وأنا منك ولا أتطفّلُ
شقيقُ الروحِ أيا لبنانُ
عن عفّة نفسي… لا تسألْ!
هكذا، فإنّ العالم الموازي للواقع الذي أنتجته الكاتبة في دواوينها يعكس رؤيتَها الذاتيّة إزاء واقعها، حيث بدا الوطن عاجزًا عن حمايتها، وهنا يستطيع المتلقّي أن يلتقط إشارات مرجعيّة تحيلُنا إلى وطن مأزوم، لا يجدُ حلاًّ لمشكلاته.
هكذا، الأشياء عند دوريس خوري، هي دومًا آخرُها، مسافرة عن ذاتها، مقيمة في غربة، إنّها أحوال الفراغ، أحوال الغياب الذي به وبحضوره يسطع كلُّ شيء، حيث الكلام هو صداه، والظلّ هو أثره وذكراه. ودوريس خوري، حتّى في اعتمادها المجاز تستبعد الصورة المكتملة، لتبني الحركة بغيابها، بمفترضاتها. أمّا الانفعالات والأخيلة والمشاعر، فقد أوكلتها للقارئ. والإيقاع بدا تصويريًّا نفسيًّا، حيث الموسيقى أشبه بضربات أو نقرات تتوالى على مقياس واحد. أمّا “الأنا” في قصائدها فتختزل كلّ الأزمنة، إذ تقول في قصيدة “ابنة الماضي”:
امرأة الحاضر والماضي أنا
أرفِدُ التاريخَ رفدًا
وكأنّ المسار في نصوصها هو قائد الكلام، يرسُم الإشارات نحو المعنى.
هكذا، فإنّ قصائد دوريس خوري هي رؤية العالم من موقع غيبتهِ، ورؤية الضوء بعد غروبه، رؤية المسافة وما لم يأتِ؛ ما يؤدّي إلى انفلات نهر التعبير في كلّ الجهات. ومن اتّحاد الحبّ بالأرض والوطن ولدت عندها القصائد، وتجلّت صورة الوطن المحفورة في ذاتها. فتعلُّقها بأرضها ليس عاديًّا، بل هو أزمة نفسيّة تعيشها الشّاعرة بدافع الشوق والحنين. وحُبُّها ليس طارئًا، بل يسري في عروقها منذ الصّغر، فيستمرّ في ذاكرتها وينمو. والوطن عندها لم يكن إنسانًا فحسب، بل هو أرض وتاريخ، ما يُفسّر ارتباطَها بالمكان، ما يعلي من شأن الخطاب الشعري عندها. حيث كلّ نصّ يحجب خلفَه رموزًا من نصوص أسطوريّة أخرى، ما يضعنا أمام كاتبة مثقّفة ومتمكّنة من أدواتها.