” جلد الذات”
حين، محمد سالم يحصد “جائزة القاهرة للكتاب- 2021″، عن ديوانه: “سيرة رجل تافه ووحيد”.
الأدب الكاريكاتوري الساخر، وخصوصا الشعر منه، قديم في حياة الشعوب والأمم. وهو في أقدم أصوله المنقولة عند العرب، إنما يعود للشاعر المخضرم بين الجاهلية والإسلام، “أبو مليكة، الحطيئة”.
شاعر الهجاء الأول، في مبتدأ العصر الإسلامي.
رفعت دعوى عليه، من “الزبرقان بن بدر”، جابي أموال الصدقات وجابي أموال الزكاة، في بلاد البحرين، للخليفة عمر بن الخطاب. وذلك لبيت شعر سخر به منه، حين هجاه، فقال فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها/
وإجلس فأنت الطاعم الكاسي/.
قال عمر للزبرقان: لم يهجك، وإنما مدحك. فرد الزبرقان: عليك بحسان، شاعر الرسول.
حكم عمر الشاعر حسان في هذا البيت، فقال: “لم يهجه وحسب، وإنما سلح عليه، كما يسلح الطير.”
حكم عمر بسجنه في بئر، ولم يخرج منه، إلا بعد إستعطاف عمر، بأبيات رقيقة، ناشده فيها إطلاقه.
قال الحطيئة لعمر:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ/ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر/
ألقيت كاسبهم في قعر مهلكة/
فأغفر حماك الله ياعمر/
فأطلقه عمر، بعد أن فاوضه، على شراء الذمم بثلاثة آلاف دينار سنويا. لأنه كان يعيش وعائلته، من أدب الهجاء. والحطيئة هو أول شاعر عند العرب، هجا نفسه بنفسه، فأسس بذلك، لأدب “جلد الذات”، وذلك حين نظر في البئر، فرأى وجهه. وكان قبيح الوجه، فقال:
أرى لي وجها قبح الله رؤيته/
فقبح من وجه، وقبح حامله/.
الشاعر محمد سالم، الفائز هذا العام، بجائزة معرض القاهرة للكتاب، عن ديوانه: “سيرة ذاتية، لرجل حقير وتافه”، يحيي، هذا النوع الكاريكاتوري الساخر في الشعر العربي.
يكاد أن يكون الضيق و اليأس وشدة الألم، من الواقع الإجتماعي والسياسي المهترئ، لمما يدفع الشاعر لجلد ذاته، عبرة لجلد العالم من حوله. فهو يبدأ بنفسه، لأنه يريد أن يعري العالم من حوله.
يقول في مستهل ديوانه:
” ضقت أيتها الحجرة/. وصرت تثورين لأتفه سبب/. فما رأيك أن أخلصك الآن من أشيائك القديمة/….
المقعد؟/ حسن. لا أحد يزورني./ ولطالما أشتكي من الوحدة/. لكن إحذري ساقه المكسورة، لم تتحمل همومي/.
يؤنسن الشاعر أشياءه. يخلعها عن جسده، ويوغل فيها هتكا وتضريبا.
تستمر عنده لعبة تحطيم الذات بأشيائها، حتى آخر نفس من أنفاسه. ولا تفرغ له كأس، حتى يعود ليترع الأخرى، ويحطمها على شفاهه. يقول:
الخزانة!
لكنها فارغة…
…
أعصب عينيها وألقيها لأول مقلب للقمامة/. أو أربطها بحجر وأقذفها إلى البحر/. فقط دليني على الباب/، كان هنا./
يراوح الشاعر مكانه، وهو مستمر في جلد ذاته. لكن بفاعلية شاعرية، تراوح بين الثقل والخفة. يخف من نافذة الذات. نافذة الحاجة نافذة الوجع الإنساني، ليطل على الوحدة عارية في صقيع الأبدية. نراه يقول:
” أنا صانع البهجة الذي، كلما فرغت من العمل/ أجمع صغاركم/ أصنع لهم عرائس العجين/. وغابة لا تأكلهم وحوشها/. الغابة التي يصنعها المجانين./
الشاعر محمد سالم، يعكس وجع العالم، في مراياه الخاصة. يعكس وجعه الذاتي، في مرايا الوجود.
يتوحد حول نفسه، يريد أن ينتقم منها، بإعدامها. بإعدامها أنثى تخونه في ثنائية الذات والآخر. يقول:
“سوف تظلين كما أنت محاطة بالمحبين/. ولست غبيا لأدعوك على العشاء/ ثم أقترح عليك أن نتخلص من العالم بإنتحار ثنائي/.”
الشاعر محمد سالم، هو واحد من المعذبين في الأرض. يريد أن ينتقل بالنار من زاوية إلى زاوية، ليحرق أشياءه، تطهيرا للدناسة التي نالت منه، لإقترافه طعم التفاهات بغير قصد.
الشاعر محمد سالم، في ديوانه الأخير: ينال جائزة القاهرة للكتاب، في برهة “جلد الذات” حتى الموت الرحيم، على عادة الشعراء في الإنتحار السقيم!
شكراً جزيلاً دكتور قصى، أسعدنى تناولك للديوان جداً وأعتذر أننى لم أكتب لك شاكراً من قبل، فلم أر المقالة سوى الآن، شكراً من القلب