قراءة لقراءة:
زهيدة درويش، في “قلب لبنان”.
إخترت مقالة: “أمين الريحاني في خلال قلب لبنان، بين المتعة والسفر والثقافة الموسوعية”، ل “د. زهيدة درويش”.
أردت أن أراجع، في هذة المقالة من كتابها:( إضاءات في الأدب والفكر والثقافة. مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية. ص: 232- 252)، ما كنت قد قرأت، في الستينيات من القرن الماضي، وأنا طالب سنة أولى في دار المعلمين بطرابلس، أحمل شهادة البروفية.
أذكر أني كنت تسلمت هذا الكتاب، إلى كتابين آخرين، جائزتي، من يد المدير الأستاذ نزيه كبارة.
شدني يوم ذاك عنوان الكتاب: “قلب لبنان”. سبب ذلك: أني كنت من قرية على الحدود الشمالية الغربية مع سوريا. يتصل أهلها يوميا بمدينة حمص. ولا يقصدون طرابلس، إلا لمتابعاتهم الرسمية.
قرأت يومها، وأنا فتى، كتاب أمين الريحاني: “قلب لبنان”، لأعرف ذلك الكيان الذي كنت أجهله تماما، والذي صار أهلنا إليه، بعد إعلان الجنرال غورو، “دولة لبنان الكبير”.
وجدتني أعود لما تبقى في ذاكرة الفتى، عن هذا الكتاب، وأنا أقف على مقالة خصته بها الأديبة والناقدة د. زهيدة درويش.
عشت في ساعة قراءة: زمنين متباعدين: زمن الفتوة وزمن الكهولة. كنت أسمع خلالها دقات قلبي، في كل سطر، تفرع من “أنامل الكتابة”، لدى الاديبة والناقدة د. زهيدة درويش، ولدى الرحالة الفيلسوف أمين الريحاني.
عشر صفحات، حرثتها بعناية. فما أخلت، ولا أخلت. كل شيء كان مرصوفا رصفا، مثل عمارة حجرية رائعة الجمال، في زمن الجص والجفصين والباطون، والكتابات النقدية الهالكة.
تمايزت د. زهيدة في قراءتها ل”قلب لبنان”. بتتبعها الدقيق لفصول الكتاب. وبالأسلوب التشويقي لتتبع الشوق. فكنت أجد نفسي أعتصر، بين ثلاثة أشواق: شوقي لشوط الفتوة التي عادت بي. وشوقي لشوط متابعة قراءة لقراءة. وشوقي لتجديد القراءة في شوط الكهولة الباقية.
ثلاثة أشواق، فجرتها بي، قراءة د. زهيدة درويش، لكتاب “قلب لبنان” للريحاني. وهذا وحده غمر من القمح، شعرت أنه يساقط من قلبي ومن عيني، وأنا أتابع خطى زهيدة، لضوع ريحانة هاربة.
تتبع قلبي، “قلب لبنان”، في منحنيات وفي منعرجات، كانت تتبعها د. زهيدة، وهي تجس بيديها، أثرا مسحورا منذ الأزل، أسمه لبنان. فما بالك، حين نكون منه، على القلب.
كانت د. زهيدة، قد إستأنت في التوقف، على الرحلات الخمس عشرة، التي قام بها الريحاني إلى أعماق الجبل المسكون بالأرز. كما على طول الساحل، المسحور بزرقة الموج.
كانت لوحات الطبيعة الخلابة، تنهض لناظريه، مشاهد مشاهد. فتتبعه د. زهيدة، وتأخذ منها قصاصات قصاصات أيقونية. تقربها لنا، حتى نعشق السحر. وحتى نعشق الجمال. وحتى نعب من قلب لبنان عبا عبا.
ذكرتني د. زهيدة، برحلة الريحاني، التي خلدها في كتابه “قلب لبنان”. رحلته إلى غابة أرز بشري، على دابة، سلكت به ثلاثة أنهر مقدسة: نهر الكلب ونهر إبراهيم، ونهر قاديشا. وسلكت به ثلاث مغاور مقدسة: مغارة جعيتا ومغارة افقا، ومغارة قاديشا.
إنطلق من بلدته “الفريكة”، فرسم دربه: جعيتا، عجلتون، ريفون، فيطرون، ميروبا، اللألوء/ اللقلوق، غابة أرزحدث الجبة/ تنورين، فحصرون وبزغون، وبشري، وصولا إلى أرز الرب.
في رحلاته الأخرى، قاسى البهجة، في أرز جاج، وفي مشمش وفي العاقورة، وفي جبيل، وكان بصحبة “يوسف الحويك” كما يقول.
تقول د. زهيدة، عن الأديب والرحالة والفيلسوف في أوراقها العشرة الجامعة: إنه كان صبورا على الوعورة. دقيقا في المتابعة وفي الوصف. جلودا في مقاساة الصعوبات. فيلسوفا في قراءة الأثر.
وعن الخصائص الأدبية والعلمية، التي ميزت كتاب الريحاني الخالد، والذي خلد به لبنان، عنيت: “قلب لبنان”، تقول زهيدة درويش: إنه أحصى شجر الأرز في كل غابة. وإنه تمكن من وصفها كعالم. وإنه تعلق بها كعاشق. وإنه طبعها في قلبه، تماما كما يطبع الأديب عمله، في القلب، ثم ينضه، بل ينضده، على الأوراق.
تقول د. زهيدة درويش، إنها وجدت في أمين الريحاني، المثقف الموسوعي. ذلك أنه لا يعيه البحث في الجيولوجيا ولا في الأركيولوجيا، ولا في الأنثربولوجيا.
تقول أيضا: إنه كان ضليعا في تاريخ لبنان والمنطقة، منذ العصر الجيولوجي الأول، وحتى أيامه، في مطلع القرن العشرين.
كان يسرد الثورات التي مرت على البلاد. وكان يتحدث عن الأمم، التي طافت في البلاد. وكان في كل ذلك، عالما دقيقا نحريرا، لا تعييه المتابعة ولا يعجزه التحليل.
في كتابه “قلب لبنان”، تقول درويش، إننا نجد أنفسنا، أمام “رسام تشكيلي” بكل معنى الكلمة. يرسم اللوحات الصغيرة ويقدم اللوحات المشهدية الكبرى، للجبال والوديان، كل ذلك ببراعة من وصف. وبببراعة من دقة في التحليل و من دقة التقرير. وكأنه يحمل بين يديه عدسة مصور، أو يصنع زوم شريط سينمائي.
إلى ذلك، فأمين الريحاني، كما رأته د. زهيدة، في “قلب لبنان”، أنه في القلب من كل شيء في الأدب وفي الفن وفي العلم وفي الحوار الإنساني و المجتمعي. وفي المسرح المحلي والعالمي. وجدته د. زهيدة، يقيم المشاهد المسرحية للناس في مواسم الحج، إلى “أفقا” عند الفينيقيين، وأثناء المحافل الجنائزية، التي تقام في مأتم الملك “أبي شمو” في جبيل.
في “قلب لبنان”، تجد الأسلوب الوصفي، والأسلوب المسرحي. وكذلك السيرة الذاتية، تقول درويش. وهو يقارن بين المشاهد. كما يقارن بين المسارح. يحاول جهده، تقديم صورة عن العصر. حتى لكأن “قلب لبنان”، صار مرآة لكل العصور.
ومثلما أرسى كتابه “قلب لبنان”، صورة تقريرية وصفية عن لبنان والعالم، تقول درويش، فهو قد أرسى أيضا، الخصائص الفكرية والفلسفية، بقواعدها العامة، للحياة المادية وللحياة الروحية، وللطرق الصوفية، ولكل منابع الإيمان. ولكل منابت المذاهب والطوائف والأديان.
فما نسي الحديث، عن المدنية الحديثة، ولا عن الفكر الإجتماعي، ولا عن حياة الناس في عصره، وفي العصور السابقة. حتى لكأن الرحالة أمين الريحاني، قد إنخرط في العلوم الشمولية، بلا تخصيص، على عادة الفلاسفة والعلماء في عصر النهضة، وفي العصور السابقة عليه.
د. زهيدة درويش، قدمت “قلب لبنان”، فجعلت لبنان، في قلب كل واحد منا. جعلت لبنان في كل قلب.
“قراءة لقراءة”، أعادتني لأرجوحتي، بين سرير الفتوة وبين سرير الكهولة، في الزمن الصعب.
تراني إذا أردد، ل “د. زهيدة درويش”، بعد هذة القراءة لقراءتها، بعض شعر محمود درويش:
سألتك هزي بأجمل كف غصن الزمان
لتسقط أوراق ماض وحاضر
ويولد في لحظة توأمان:
ملاك وشاعر.