زيارة روحيّة
ثَقُلتْ أجفاني، زاغَتْ نظراتي، اضطربَتْ أفكاري، تشوّشَ ذهني، اختلطَتْ الصّور أمام ناظريَّ فصارت ثلاثيّةَ الأبعاد ومضاعَفة الأعداد.
وغفوت………….
…………
فزرتُ كلَّ المهاجرين إلى السّماء.. قضيتُ معهم أروعَ الأوقات وأسعدها.
كانت أصواتُهم هادئة، عيونهم باسمة، نفوسهم صافية، لا ضجيجَ، لا شجارَ، لا خصوماتِ، لا عتابَ، لا بيعَ لا شراء، لا حسد، لا حقد، لا ضغينة، لا نميمة، لا تنافس، لا هموم لديهم، لا هواتف بين يديهم، لا ساعاتِ في معصَمَيْهم، وقد تساوَتْ نظرتُهم إلى الألوان، أثوابُهم بيضاءُ ناصعةٌ.
قضيتُ معهم وقتًا طويلًا لا ليلَ فيه ولا نهار، لم نشعلْ إضاءة، ومع ذلك كان هناك نورٌ بلا ظلال..
لم أشعرْ بالضّيق والقلق أو الضّجر والملَل..
كنت أتنقّلُ بينهم من مكانٍ إلى مكان بخفّةِ الفراشة ورشاقةِ النّسيم، وأقدامي لم تكُنْ لتَطَأَ الأرض، فلم أشعرْ بثِقَلِ جسدي، وحَذَرِ وقعِ خُطُواتي.
ورحتُ أبحثُ عن زعيم هؤلاء أو رئيسهم، لكنّي لم أجده، سألتُ أحدهم عنه، فابتسم بهدوء وأجابني:
إطمئنَّ يا أخي أنت هنا في دار البقاء..
هنا لن تجدَ رئيسًا ومرؤوسًا،
هنا لن تجدَ غنيًّا أو فقيرًا، فسألته:
— وما هي شروط الإقامة هنا؟ هل يمكنني استئجار منزل أو ابتياعه؟ فنظر إليَّ بدهشة غريبة وأجاب:
— هنا لا بيوتَ ولا خِيَمَ ولا قصور، هنا تقيم حيثما تشاء ..لا أحد يملك شيئًا خاصًّا به.
— وفواتير الماء والكهرباء والموتور كيف تسدّدونها؟
— لا عتمةَ هنا ولا ظلمة فأنت هنا في كوكب النّور
— يا إلٰهي ما أروعَ ذلك!
— وأين المتاجر والدّكاكين؟
— أنتَ هنا لا تحتاج إلى طعام أو شراب فجسدُك التّرابيّ الّذي لا تُشبعُهُ نِعمُ الأرض وخيراتُها، والّذي لا تملأ عينه سوى حفنة تراب بقي في كوكب الأرض، أمّا هنا فإنّ روحَك تَشبعُ من جسد الألوهيّة العظمى وترتوي من خمرة المحبّة.
هنا لا جوع ولا عطش.
— وكيف تصلّون؟ أين الكنائس والجوامع؟
— وما حاجتنا إليها فنحن
هنا في بيت الله ومعه
— ولكن نحن نحبّ الله كثيرًا فنبني له أجمل المعابد ونزيّنها ونضحّي من أجلها بالغالي والنّفيس
— أنتم تقيمون الله في معابدكم وتسجنونه فيها، وعندما تغضبون من بعضكم، وتريدون أنْ تدافعوا عنه تهدمون بيته.
وكلٌّ منكم يحسب الله زعيمًا تابعًا له فيقتل الآخر باسمه، ويستميت دفاعًا عنه ويجهل أنّه يقتل الله في كلّ مرّة يقتل بها إنسانًا وهبه الحياة، ولستم في عملكم هذا إلّا عملاءَ الشّيطان.
— ألا تقع عندكم حروب؟
— لا تنشأ الحروب إلّا حيث تقيم شهوات الجسد، أمّا الرّوح فهي أمانة تعود إلى خالقها. فأنتم لا تدرون أنّه لا فرق بين إنسانٍ وآخر إلّا بتقواه، وتجهلون أنّ المحبّة قلب الله، وقلبه لا يقيم إلّا حيث يسود السّلام
— لقد تعلّمتُ منكم الكثير..
تعلّمتُ أنّ كلّ ما يزيد عن حاجة الجسد يرهق الرّوح لأنّه يحاول أنْ يجذبها إلى غير عالمها السّامي الأصيل.
فجاذبيّة الأرض تشدّنا إلى مغرياتها فتثقلنا بعبء كماليّاتها.
لله ما أروع حياة الأرواح !!
سأطير، سأطير وأعود إلى الأرض كي أوزّع كلّ ما لديّ على البشر.. سأهب مفروشات منزلي لمن لا مقاعد لهم، والآلات الكهربائيّة لمبتوري اليد الواحدة، وثيابي للعراة، والحلى والمجوهرات لمن تاه عن تجميل جوهره وانصرف إلى تجميل مظهره، وسأهب سيّارتي لفاقدي الأرجل، وأقدّم خزائني لمن يفترشون الأرصفة ويلتحفون الفضاء، وتلفزيوني سأقدّمه لمن يهوى سماع أبواق الزّعماء، وثلّاجتي؟! لمن أقدّمها؟ فهي لا يحتاجها الفقراء!
ولكن لن أعطيها للتّجّار خشية تكديس اللّحوم والمثلّجات.
سأوزّع كلّ شيء وأعود إلى هنا..
رفعتُ ذراعيَّ كالصّقر، وألقيتُ بنفسي من علُ وبلحظة هبطتُ من السّماء وقد أوجعني الارتطام.
فتحت عينيَّ مستيقظة لأجد نفسي قد انزلقتُ عن سريري وسقطتُ أرضًا.
( الكاتبة عايدة قزحيّا / لبنان )