الأصعب غدا
لم ينته الزمن الصعب، الذي يمر على لبنان، هذة الأيام. ولو أن اللبنانيين ينتظرون الزمن الأصعب غدا.
صحيح أن الشجرة تساقطت أوراقها تباعا، واحدة بعد أخرى. ولكن تشرين لم يأت بعد.
صحيح أن الشجرة اللبنانية، تعرت من أوراقها كلها، ولا أقول “كادت”. ولكن “التشارين” على الأبواب. حيث الريح الناشطة القوية، التي تنتظر. والتي ستهز الجذوع هزا، بعد أن تعري الغصون من أوراقها.
لم تزل السياسة اللبنانية غارقة مثل النعامة، تدفن رأسها في الرمال. ولا تنظر ماذا يجري حولها.
ولم يزل السياسيون اللبنانيون، يبحثون في الغصون العارية، عن “بقايا”، يأملون العثور عليها.
هم يرون رأي العين، أنها عارية. وأنها لم يتبق شيء عليها. لا من ورق ولا من ثمار، ولا من لحاء، ولا ما يحزنون.
هم يعرفون أنهم زحفوا عليها، مثل الجراد. عروها. حتى بات عودها ينز دما ودمعا، من هول العراء.
ومع ذلك، الأصعب غدا. الأصعب لم يأت بعد.
كل شيء يتساقط في لبنان، بسرعة الريح. كل شيء يهوي هويا غير معقول.
يرتطم بالأرض ويتناثر حتتا حتتا، فلا يصلح من بعد.
ومع ذلك فالأصعب غدا.
إنتهت كل السبل إلى غاياتها. نفدت كل الرسائل. نفد الكلام. حم السلام. وجم الحلم والمنام.
لم يبق شيء إلا جرب. لم يبق سلاح إلا إستعمل. لم تبق وساطة. لم يبق تمن. لم يبق أمل. لم يبق رجاء.
ومع ذلك، فالأصعب غدا.
لبنان، لم يبق فيه مسؤول، يرجى عنده السؤال. صاروا جميعا على أبواب الله، خشبا مسندة.
لبنان، لم يبق له شقيق، يسأل عن حاله. لم يبق له صديق، يفرج عن كربه في الضيق. لم تبق له أم. لم يبق له أب.
لبنان، هجرت سماءه العصافير، وطارت إلى الأقاصي، تبني أعشاشها. تبحث عن قش وعن حب. وهذا غاية أحلامها.
لبنان، غار فيه الماء. غارت فيه الجبال والوديان. لبنان جف فيه الضرع. ذاب في الثلج. بان فيه المرج.
إسودت شمسه. صار في ليل القبور. صار جزءا من حلكة الليل.
لبنان أصابته لوثة، أخرجته عن دوره. لم يعد مصيفا للعرب، ولا لغير العرب. لم يعد فاكهة العرب ولا غير العرب. لم يعد عرس العرب. صار “أبو علي المحارب”.
صارت سياسته ملوثة، مثل شطآنه. مثل أنهاره. مثل هوائه. مثل بقوله ومثل حبوبه وخضاره.
لم يعد لديوك لبنان إلا مزابل التاريخ للوقوف عليها، حين يفردون جناح الإنتشاء.
لم يعد لقططه، لعنزه، لأطفاله، لشيوخه. لعجائزه. لأهله. إلا الجوع. يهجم عليهم.
يسد المنافذ والدروب والبحار، ويمنع الأمطار.
“تمطر عادة في القلب”، يقول قائل. لكنه أسقط في يده: جففوا، حتى مطر القلوب.
ومع ذلك: الأصعب غدا.
لبنان تعرى عوده، وصلب للريح والملح والشمس.
تعرى شجره. تعرت عائلاته. تعرت أسره. كل شيء فيه أخرج إلى العراء. ركن مثل دابة جرباء. يعنف للخضوع و للموت الزؤوم.
لبنان، هذة الأيام، طريد الريح. شريدا. ضل الطريق. يدور في متاهة، من الشروق إلى الغروب. ومن الغروب إلى الشروق.
يبحث عن صديق. لكن الأصعب غدا.
لبنان، حلس قصور فرغت من معناها.
لم يعد أنيس تاريخه. لم يعد جليس أجداده. لم يعد موئلا، ولا كنفا ولا مصيفا.
صار قاعا صفصفا.
ولكن الأصعب غدا.
لا ذلت أذكر ما شاهدته في صغري، في سوق القمح، بطرابلس، في ستينيات القرن الماضي.
كنت أعبر فيه صباحا، لإجتياز الجسر، آتيا من باب التبانة. قاصدا منطقة التل. فأرى توأما معاقا، وقد إلتصقا ببعضهما من شدة الجوع ومن شدة الخوف. يمر بهما أهل السوق. يضعون لهما: مالا وطعاما وشرابا.
مرت بهما سيدة، هالها المشهد. فشهقت وقالت يالطيف! فقالا لها: مهلا يا أختاه: “الآتي أعظم”. فأجابتهما: هل هناك أعظم من هذا؟. قالا لها : نعم. إذا مات توأمانا، وبقي أحد منا بعده حيا!.
نعم الآتي أعظم!. نعم الأصعب غدا!.
حين ينزح الشعب، هربا مما يرسف به. حين يقتله الجوع والعطش. فيهجره الشباب، ولا يبقى فيه إلا العجزة والشيوخ وحفارو القبور.
فيجلس عاريا مثل “شق الكاهن”، بعين واحدة وبيد واحدة. وبرجل واحدة.
الأصعب غدا، نعم يا سادة: حين يموت الشعب. ويبقى الكاهن شق.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
