الملعب المحايد
كثيرون ممن يتسمون بحاسة الإشتهاء، يتطلعون إلى لبنان، يريدون ضمه إليهم. يريدون إبتلاعه. يريدون هضمه.
يرون فيه، بلدا طفلا. بلدا جميلا. بلدا إستراتيجيا. بلدا تاريخيا. بلدا متعددا. بلدا صغيرا. يرون فيه لقمة صغيرة، سهلة الإبتلاع. يرون فيه عقارا صغيرا، سهلا للبيع.
كثيرون ممن يتسمون بحس العظمة. وبحس التعاظم. بحس الأباطرة. وبإحساس التجار في المزادات. وبإحساس المقامرين في الرهانات، وبإحساس المغامرين في البورصات، ينتظرون لبنان على المفرق. يريدون أن يتخطفونه حين يتهاوى هيكله. حين ينفطر عقده. حين تتهاوى منه عمده. يريدون أن يتخطفوا قطعا منه، حين يصير مثل قطع “مركبة” تعرض للبيع في الكسر.
كثيرون ممن يسنون أسنانهم في الخارج، لنهش لبنان، لا يدركون أن هذا البلد الصغير، زهرة كثيرة الشوك. قطعة من الحنظل، قطعة من العلقم مرة الطعم.
يعاني لبنان من النظر الفضولي إليه، وهو في أسوأ أحواله. كل
دول الشرق والغرب، تريد الوصل ب “ليلى”. تريد الوصل بلبنان. ولبنان، ليلاه غارقة في أثمالها، تبحث عن قطعة سكر. تبحث عن خرقة، مزقة، سترة، ولو مهللة عليها.
كل دول العالم. كل عواصم العالم في شأن. ولبنان، همه شأن آخر.
طوال دهره كله، عاشر كل دول العالم. وعاش كل التجاريب. وحين إستيقظه الرابع من “آب – 2020″، من ثباته العميق، أدرك أنه وحده. أدرك أن كل الصداقات. أدرك أن كل الوعود. أدرك أن كل العهود: الشقيقة والصديقة، إنما تنظر إليه إرثا. إنما تنظر إليه، وطنا مؤجلا معروضا للبيع.
كل دول الشرق والغرب، تنظر إلى لبنان ملعبا. تنظر إلى لبنان، حديقة خلفية لها.
غشاه الفاتحون باكرا. تناوبوا على النزول إلى ملعبه. مكثوا أيامهم، وهم يفكرون في نهشه، ثم خابوا وغابوا. وآثارهم خلفهم، على الصخر، ينبحهم كل يوم “نهر الكلب”.
لعبت كل دول العالم، في ملعب لبنان، منذ قديم الزمان، وحتى اليوم. وكان البلد الطفل، يشهق تحت مسامير نعالهم، “شهقة جورج فلويد: إني أختنق”.
إعتاد اللبنانيون ذل الإحتلال. تمرسوا فيه. صانعوه، فصنعهم. صاروا “عبيد الإحتلال” بإمتياز.
يستيقظون كل صباح على محتل. يأتي إليهم، مثل الزمن الغشيم: “عدوا، في ثياب صديق”. ثم لا يلبثوا أن يستطلعوا منه أمره. فيفغر لهم شدق الذئب. يريد أن يمزقهم. يريد أن يقطعهم. يريد أن يذبحهم. يريد أن يلتهمهم إلتهاما.
لم يبق في الأرض لاعب، إلا نزل يلعب في ملعب لبنان. كل لاعب منهم، كان تياها. ضربت الغطرسة رأسه حتى تكلس، حتى صار من الصخر. حتى جعلت منه ناطحا، همه أن يوهي قرن لبنان.
متى يصرخ لبنان صرخته، في جميع وجوه غرمائه اللاعبين. يعض آذانهم ويصرخ فيها صرخة الحرية. صرخة “الحياد” المدوية.
يقول لهم، بعد معاناة وتجربة وتجريب: رجاء دعوني، ملعبا محايدا. لم أعد أحتمل دوس أقدامكم. دوس نعالكم. لم أعد أحتمل جميع فنون صراعاتكم. إحدودب مني الظهر. ولم يعد صالحا للركوب.
لبنان ملعبا لأهله، محايدا في وجوه الآخرين. هكذا يريده أهله.
لبنان ملاعب الدهر. عرك الدهر وعاركه. وكبه للجبين. لن يعود لطيشه مرة أخرى، رحمة بأبنائه الجائعين.