القص والقصة
-×-×-×
كثيرون ممن ليس لهم أدنى مسكة بالأدب، لا يميزون ولا يفرقون، بين فن القص القديم، الذي عرفته الشعوب القديمة كافة، ومن بينهم العرب القدماء. وبين فن القصة الحديث، ذي النشاة الغربية.
فالقص القديم، إنما هو شكل من أشكال الأحاديث الفنية. وهو يحمل طابع الرواية بعامة، التي يرويها الراوي، أو طابع الخبر الذي يذيعه رجل الخبر، أو طابع الرواية التاريخية، التي يجيء بها، المؤرخون ويحملونها ويروونها. ويذيعونها في البلاد. أو يسردونها، في نسيج ما يسردون من أنواع السرد الفني الجميل.
وكان فن القص عماد فن النثر . وهو يقابل منذ نشأته، فن الشعر. وقد خصص له أبو الفرج قدامة بن جعفر البغدادي (ت: 922 )، كتابا مستقلا، أسماه “فن النثر”. وجعله مقابلا لكتابه الذائع “فن الشعر”.
وأكثر ما إنتشر فن القص، في بطون كتب التاريخ والأدب. وخصوصا منها: كتب الحديث وكتب الأمثال وكتب الأثر. بالإضافة إلى كتب الإخباريين، وكتب الرواة، وما يضعه المؤرخون، من مؤلفات تاريخية، تضم في تضاعيفها، أخبارا قصصية جميلة، وقصصا فنيا جميلا عن الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
في الشكل، يقع القصص الفني، في مجموعة من السطور. وإذا ما تجاوز ذلك، فإلى بعض الوريقات. وهو في مثل هذة الحال، لا يجوز أن يطلق عليه إسم الرواية، ولو شكلا. كما لا يجوز أن يطلق عليه، إسم القصة. ولا حتى إسمم الإقصوصة. فهذا كله شأن آخر من الأدب. وهو من رحم الغرب، لا من رحم الشرق ولا العرب.
والقصص الفني، يقوم على قواعد العربية كلها، ويأخذ بها كلها، ولا يتأبى على أي منها. كذلك هو يؤاخي قماشة الخطابة، كما يوافق قواعد البلاغة، ويلتئم مع أسرارها كلها. ومع فروع فقهها. وكذلك مع ما جميع ما يروم ، وما يحوم حولها.
وقد إشتهر فن القصص عند القدماء، فكانوا يقصونه في الأسمار. وكانوا يقصونه في الأسحار. وكانوا يعلمونه للكتاب، وكانوا يقصونه للجند.
كان فن القص عند القدماء، فن التسلية. كما كان فن التأدب. وكان فن الحكمة، كما كان فن الوعظ والإرشاد.
وكان القصاصون، يملأون قصور الخلافة، وقصور الأمراء. ودور وقصور القادة والموسرين والتجار، وأهل الدولة، على أي إعتبار. كما كانوا يأمون المساجد والكتاتيب والتكايا والسبل. بالإضافة إلى الدواوين والفنادق والمنازيل. كما كانوا يرافقون قوافل الحج والعمرة. وينزلون في الخانات والأسواق، يحدثون ويعظون، ويروون ويؤدبون. وتكون لهم فيها، دكك ومجالس ومنابر وحلقات.
من هنا، كان علينا أن ننبه، إلى البون الشاسع بين فن القص، وفن القصة.
ذلك أن فن القصة، هو فن حديث بإمتياز. نشأ في أوروبا، في مطلع القرن الثامن عشر. ثم إنتقل من خلال المتادبين ومن خلال المترجمين إلى سائر الأمم والشعوب. فكان أن وصل إلى المتأدبين العرب. فتأثروا به، وأثروا فيه. ولو أن الغرب، ظل أكثر ثراء به، حتى تاريخ قريب.
فن القصة،هو فن غربي بإمتياز. وهو فن حديث بإمتياز. ولا علاقة له بفن القص عند العرب. ففن القص شيء، وفن القصة شيء آخر. ولا صلة بينهما.
وقد ميز الأدباء الغربيون، آباء القصة الحديثة وآباء الرواية الحديثة أيضا، بين القصة والرواية.
فالرواية، يمكن أن تقع في أجزاء كثيرة. بينما لا نرى القصة، تحتمل ذلك، إلا بتعسف.
غير أن الجامع المانع بينهما، هو السرد الفني، كما تسميه، المدارس النقدية. وهو حتما يشكل القاسم الفني المشترك، بين القصة، التي يمكن أن تكون، قد نشأت، متأثرة به، وبين الرواية المتأخرة عليها.
ولعل ميتافيزيقيا الكتابة القصصية، بخاصة، والكتابة الروائية بعامة، إنما هي تتماثل، مع قوانين النظم الشكلية Formal Systems. فهي غير مسببة، بل نقبلها قبولا ناشئا عن قناعاتنا بها، مثلما يحصل مع النظم الإعتقادية – Blief Systems .
إن الفاعلية القصصية أو الروائية، منشط أوسع بكثير من نطاق الدراسات الروائية، لأنها تتجاوزها إلى دوائر معرفية كثيرة، تجعل منها حقلا معرفيا، من حقول المعرفة المشتبكية.
وللقصة أو الرواية، قوانين مشتركة، أبرزها: 1-قانون الإمكانية. ومفاده أن كل ما يمكن تخيله، يمكن بالتالي سرده في سياق فاعلية سردية. ومثالنا على ذلك: توظيف “ناسا” الفضائية لروائيين ولمخرجين سينمائيين. وهذا ما حصل في حقل القصة والرواية، وتوكؤهما على الخيال العلمي.
2- وهناك قوانين العوالم المتوازية. وهو يفيد أن الخيال البشري أثرى من المرئي والمحسوس.
3- كذلك هناك قوانيين الإحتمالات المتناقضة. و 4-قانون الخبرة والأخلاقيات. ولا بد من الإشارة، أن الاخلاقيات- Ethics، تتمايز عن شيء أسمه الأخلاقMoral
5- وهناك قانون الأنتروبيا القصصية والروائية.
بإختصار: إن القصة، أو الرواية، إنما تعمل على تعزيز منسوب الخبرة البشرية او الأخلاقيات البشرية.
فالرواية منتج بشري، إنما يمثل، احد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان. وليس لها أدنى علاقة مع مورثه من القص القديم، الذي تداولته الشعوب القديمة حول ضفاف المتوسط، وعلى سواحل المحيطات التي كانت تكتنف أرجاء العالم القديم، وشعوبه المتمايزة والمتلاقية في آن.
فالقص شيء والقصة شيء آخر حتما.