رحيل سعدي يوسف
ذبيح الضباب
دجلة لا يرحل. غار بعض دمه في ضبابة الأمس، حين طوى سعدي يوسف أضلعه،ثم نشرها وأرسلها مع الريح، ترجع قصيدته فوق أرض العراق.
رحل الشاعر العراقي، سعدي يوسف، صباح السبت، 11/6/2021، حيث وافته منيته، في إحدى مشافي لندن، التي بنى فيها خيمة من ضباب النفي والإبعاد، لأربعين عاما ونيف.
سعدي يوسف(1934- 2021)، الذي ولد بمدينة “أبي خصيب”، بالبصرة، وتخرج من دار المعلمين العالية ببغداد-1954، دخل السجن في العهد الملكي، ثم هاجر مكرها، للتدريس في الجزائر-1963. وكانت هجرته المكرهة إلى العاصمة البريطانية- لندن 1979، الذي توفي فيها، بعد مرض عضال أقضه، وقد بلغ من العمر 87 عاما.
طائر دجلة الأبلق. عرف الغربة وذاق لوذعيتها، على أرصفة مدن عربية، وغربية كثيرة.
حمل رحله، وطلب أيضا، بلغراد، ونيقوسيا، وباريس، وبيروت، وعدن، ودمشق. ثم إختار لندن، ليمضي فيها بعضا من فصول شقائه الأخير.
كان الشعر ينهل من جنباته الموجعة، بفعل النفي والهجرة والرحيل الدائم، من بلاد إلى بلاد.
وبفعل الغربة القسرية، عن أرض الرافدين، وهو الشقيق الثالث لدجلة والفرات، عنيت سعدي يوسف، أخذ كبير الشعراء العرب المعاصرين، معناه من ماءة شط العرب في الخليج.
شاعر التيه والرحيل الدائم، والغربة القسرية، أولد الدواوين الكثيرة، مثلما أولده الشعر، من ضلع “خصيب.” فكان ديوانه الأول “القرصان”، الفاتح من العام1952.
إستطاع شاعر الماء والغربة والضباب، أن يثري الشعر، بسبعة مجلدات ضخام. دون أن يتخلى عن كتابة الرواية وعن كتابة النقد. وقد كان يكتب قصيدتين، و ربما ثلاث قصائد في اليوم الواحد، دفعة واحدة، لا على دفعات، مثل إنهمار السحاب.
وبقدر ما كان شاعرا ثرا، كان شاعرا ثريا بالجوائز.
فقد حصد من الجوائز: “جائزة سلطان بن علي العويس”. وكذلك “الجائزة الإيطالية العالمية”. وجائزة ” كافافي” من الجمعية الهلينية. ونال في العام2005، “جائزةفيرونيا الإيطالية”، لأفضل مؤلف أجنبي. كما حصل في العام2008، على “جائزة المتروبوليسن”، بمونتريال الكندية.
قدر الراحل العراقي الكبير سعدي يوسف، مثلما هو عظيم في الشعر، فهو عظيم أيضا في النثر. له رواية بعنوان: “مثلث الدائرة”. وله مسرحية بعنوان: “عندنا في الأعالي”. بالإضافة إلى مجموعة قصصية قصيرة بعنوان: ” نافذة بالمنزل المغربي”.
وله من اليوميات، ذات النكهة النقدية و السياسية: ” يوميات الأذى” ، و”يوميات ما بعد الأذى”.
إشتغل سعدي يوسف أيضا، في عالم الترجمات لتعدد الألسن التي يتقنها. ولم يغادرنا، إلا بعد أن أودعنا أكثر من عشر ترجمات، لقصائد الشعراء، أمثال: والت ويتمان، ولوركا، وكافافي، ويانيس ريستوس.
كذلك ترجم كتبا لكتاب عظام، كانوا يعرفهم، مثل الكاتب النيجيري: “وولي سوينكا”. والكاتب الإنكليزي: “جورج أوريل”. وكذلك الياباني:” كينيزابورو أوري”، والاميركي الشهير: “هنري ميللر”.
ورث سعدي يوسف، جيل الرواد العراقيين، فغذ بالحداثة نحوهم، فكان من المعاصرين، الذين يحتفون بالشعر الحديث، عند البياتي والسياب ونازك الملائكة. غير أنه كان يفيد من المدرسة التجريبية، ويصنع الشعر الذي ينهله من يومياته المعذبة والعذبة، على حد سواء.
تذوق سعدي يوسف مرارة السياسة، بسبب إنتمائه المبكر للحزب الشيوعي العراقي. تماما كما تذوق حلاوة الشعر التجريبي، من خلال إنغماسه اليومي بالتفاصيل الحية المعاشة، في العراق، كما في أبواب الهجرة و الإغتراب.
ما كتب من الشعراء شعرا لأنفسهم، كما كتب الشاعر المجلي سعدي يوسف. هو الذي رصف أوجاعه وأوجاع جيل المنافي، في صالات المقاهي، جيئة وذهابا.
من شارع الرشيد في بغداد، حتى أرصفة لندن وأرصفة المدن العربية، وأرصفة مدن أفريقيا التي زارها وعمل فيها، وجزر البحر المتوسط، كان سعدي يوسف، ينقل بين جنبيه الضباب الخفيف والضباب الكثيف، الذي ذاقه، بين ضفاف دجلة وشط العرب، وضفاف نهر التايمز.
كان سعدي يوسف، يحمل أنهار العرب وصحارى العرب وإرث العرب: ثقافة، يقارع بها الطاغية والمحتل. يقول من الإرث الحضاري:
تفتح لي خان أيوب. ما دلني أحد. غير أني دخلت. وبين حديقته والدهاليز أبصرتهم، يصنعون القنابل..
إنهم إخوتي، يرسمون دمشق على هضبة الله والإحتلال.
إنهم إخوتي، يرسمون على النهر، أعمدة الجامع الأموي جسورا/ جسورا/ جسورا/ جسورا/.
وقد ينسفون الجسور إلى الناصرة.
سأسكن في خان أيوب، ما دلني أحد، غير أني إهتديت.”
لا يغادر سعدي يوسف العناوين الكبيرة. ولا يغادر التفاصيل الصغيرة. غير أنه ظل يعيش في بطن غيمة. في بطن يمامة، في بطن ضبابة، يعشق جرحه، ويعض عليه، حتى الرحيل الأخير.