البعض يعاني رهاب المرتفعات والبعض الآخر رهاب الحشرات ،الأماكن الضيقة ،الظلام تعددت الأنواع أما رهابي فهو من نوع آخر ..
في صف الروضة كنت أستمتع بوقع حفيف أقلام التلوين على الورق ،بتشكيل المعجون،بالألعاب الزاهية ،بالقصص الحالمة . ما زال عطر معلمتي عابقًا يتجول في أنفي .
ذات يوم بينما كنت أسير بعجلة متوجهة إلى عملي عصف عطر شدني بقوة . إنه نفس عطر معلمتي أرجعني إلى سنوات الطفولة وكأن دولاب الزمن طاف بي إلى جدران صفي ومعلمتي الجميلة ها هي أمامي تبتسم لي وتلاعبني . لحقت بتلك السيدة كمن أوشك أن يفوتها آخر قطار .
اقتربت من تلك السيدة وسألتها عن اسم العطر الذي تضعه وأخبرتها كم هو غال لما تحتوي قارورته على ذكريات وقهقهات وسعادة ، تبسمت قائلة اسمه “أناييس” ، شكرتها بلطف وتابعت سيري منتشية بتلك الذكريات .ومنها أذكر معلمة حاكت من الورق مركبا وأخرى كانت تصنع من الورق وجهًا يخرج منه لسانًا ثم يختفي فجأة كان يصيبني بالذهول . وأخرى تغوينا بقلم حمرة فنتزاحم لنتزين. صفوف الروضة كانت ذاخرة بالجاذبية والدفء.
عشت ثلاث سنوات في نعيم عالم الطباشير والألوان والموسيقى عالم لا يركن إلى جذع شجرة . قصوره تمتد فوق الغمام .عالم النقاء والحب الطهور.. أتذكر رفاقي حينما كنت أبكي كيف يجتمعون ويواسونني ويمسحون دمعي المدرار .
أسمع أصواتهم ينشدون “يا سلوى ليش عم تبكي؟؟!!”، “رن رن يا جرس “… أذكر كيف كنا نتقاسم الطعام ونقيم مراسم الاحتفال بعيد ميلادنا يوميا .كيف نجبل من الطين قالبا من الحلوى ونطفئ الشموع الوهمية ونأكل بنهم وفرح عارم .
كل هذه القصور والغمام انقضت عليها مخالب ساحرة شريرة ألقت تعاويذها وطلاسمها على قصورنا التي تمخر فوق الغمام وحولتها إلى سجن مظلم بارد عفن ،مسور بقضبان محكمة حول صدورنا .. تلك الساحرة بشعرها المنسدل الأبيض الطويل، ووجهها الشاحب الذي امتلأ بالنتوءات، وحاجبيها المعقودين كطائر سنونو أقلقه الخريف ، وثغر لم يتقن التحليق عاليا ،وصوت يخلو من الرحمة، ولسانا كالسياط يلذع أذاننا ، ويد أطول من ذيل البعير لا تستكين صفقا يمنة ويسارا ، وقلبا خاويا من مؤهلات الإنسانية ..
تلك المعلمة أدخلتني في رهاب مزمن دام لسنوات طويلة . وأذكر يومها أن الصف كان مظلما، متجمدا كخافقها، ميتا كضميرها .اقتربت مني كتلك الساحرة التي جاءت لتتفحص اصبع ذلك الطفل المسجون في القفص إذا حان وقت التهامه ..
ففي كل يوم ضحية وذلك اليوم كان يوم التهامي. انقضت عليّ سائلة عن جدول الضرب تلعثم لساني وتمسمر قلبي . خوفي منها أنساني كل ما حفظته ،تبخر من هول منظرها . فقامت بانتزاع جواربي ،وأحضرت عصاها، وانهالت على قدمي ضربا وانتقاما . لا أدري لمَ تسكن في روحها كل هذه الوحشية والحقد؟؟!!!!
هل أحكمت العقد وثاقها حول عنق ضميرها حتى نفق ؟؟!!!!!!
منذ ذلك اليوم بدأت معاناتي ورهابي من المدرسة حيث ينتابني كل صباح أوجاع بطن أليمة من القلق والتوتر .وأصبحت أكره الأرقام وباتت جبالا جليدية خالية من دفءالمشاعر والإنسانية . وباتت بالنسبة لي طلاسم وتعاويذ خاصة بتلك الساحرة …
… أينما كانت روحك اليوم أحيطك علما بما عانيت بسببك . ولكنني تخطيت خوفي واقتلعت قضبانك التي غرزتها في روحي إلا أن ندوبها لا تلتئم ..
وأخبرك بأنني أصبحت معلمة رياض أطفال ولكنني لست على غرارك .. وأعدت بناء القصور فوق الغمام حيث أحلق بتلاميذي وأفترش لهم أجنحتي ونرتقي إلى عالم خفي لم ولن تدركيه أبدا كمكنستك الهزيلة ……
( بقلم : علا محمود بيضون / 24 سبتمبر 2019 )