…نشر الناقد التونسي جمال مسيوغة دراسة في جريدة البناء اللبنانية تحت عنوان ” جمالية التكثيف في ديوان الشاعر أمين الذيب ” ننقلها الى موقعنا للإفادة واطلاع المهتمين بالأدب الوجيز الذي اسس منتداه الشاعر اللبناني الراحل أمين الذيب .
هنا الدراسة نقلا عن جريدة ” البناء ” في لبنان :
لطالما كان إيماني عميقاً بأنّ المبدع متحرّر متمرّد على ذاته قبل ذوات الآخرين، يروم الانزياح عن خطّ التحرير السائد والمكرّس وتأسيس نصّ جديد يتمرّد على لغته أوّلاً ثم يعلن رفضه وتمرّده على المادّة الشعرية التي ظلّت سائدة، وهي التي أفقدت الشعر توهّجه وتأثيره فيسعى إلى خلخلة الثوابت في الإيقاع واللغة والصورة الشعرية حرصاً منه على تحرير ذاته وواقعه والمتخيّل من كلّ القيود.
والحقّ أنّ هذا الإيمان ازداد رسوخًا عندما انقلب نسق الحياة الذي لم يعد فيه المتلقّي يصبر على سماع النّصوص الطويلة ولم تعد فيه الذائقة تستسيغ الموجود، ولعلّ تعدّد التجارب الحديثة في الكتابة الإبداعية الوجيزة كالقصّة الوجيزة /القصّة القصيرة جدّا، والومضة الشعرية والشذرة والتغريدة..
يؤكّد الشعراء هذه الرغبة الملحّة في تأسيس جنس جديد يعبّر عنهم كذوات مبدعة وتميّزهم وتميّز زمانهم وكما يقول الشاعر أمين الذيب: هويّة تجاوزية تنظر إلى الحياة نظرة مخالفة تسبر أغوار الذات في علاقتها بوجودها وبكونها، ولكن هذه التجارب المتنوّعة تحتاج إلى جهاز نقديّ يرافقها حتّى يجوّدها وينقّيها من كلّ الشوائب بوضعها على محكّ المختبرات النقدية فتساهم بذلك في تطويرها والارتقاء بها وتمييز الجيّد منها من الرديء، لأنّ ما نشهده اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي وحتّى بعض الدواوين التي صدرت من استسهال لهذا الشكل الأدبي الوجيز وإن عبّر في الظاهر عن علامة صحّية فإنّه في الباطن يعبّر عن استخفاف وعن عدم الوعي بعمليّة الإبداع التي تفترض الموهبة وطاقات فكرية وفلسفية وجمالية وغيرها.
لذلك سنحاول أن نبرز بعض خصائص الومضة الشعرية من خلال ديوان أمين الذيب الصادر ببيروت لبنان تحت عنوان «ومضة» الذي يضمّ 272 ومضة. ويعود اختيارنا لهذا الديوان لجودته وعمق دلالاته ولنسيجها الفنّي المغاير للمألوف الذي يعتمد على التكثيف المولّد للغموض ولطرافة الصورة الشعرية بفضل الاتّساع الداخلي للّغة، وعلى هذا الأساس نلج النّص الشعريّ لأمين الذيب بحثًا عن مواطن االتّجديد فيه من خلال نموذجين، أوّلهما الومضة الآتية:
امرأة عجوز
ترسم على نافذتها قمحا
تأتي العصافير
تأكل الماضي بشهيّة
وتموت
تتشكّل هذه الومضة في إطار قصصيّ مكثّف يحمل قدرًا من آليات السرد، ولكنّه سرد سريع بين طيّاته ابتهال صوفيّ يبحث عن المغفرة لخطيئة ارتكبت في الماضي السحيق. فالصورة مكثّفة تعتمد الرمز تتضمّن مفارقة شعريّة إدهاشية «امراة عجوز»، «قمحا»، «العصافير»، «تأكل الماضي»، «تموت»، هذه المفردات هي علامات لغوية داخل النّص الشعري لكنّها ترتبط بعلامات اجتماعية خارجه فينحت بذلك نصّا او ومضة أخرى هي النّص الثّقافيّ على حدّ عبارة يوري لوتمان. لذلك لم يكن بدّ ونحن نقرأ ديوان ومضة لأمين الذيب من هذا التّمثل الثّقافي لشبكة الومضة لغة ومجازًا وتاريخًا وتخييلًا صورة ودلالة. وأنت تحاول أن تفكّ شيفرة هذه الصّور رمزية امراة عجوز الدالة على القدم والماضي بعمقه التّاريخي وما ارتكب فيه من خطيئة على يد آدم. ورمزية القمح التي تقوم على التّضحية والفداء فحبّة القمح إن لم تمت فإنّها تبقى وحدها ولكن إن ماتت فتأتي بغلال كثيرة. فالقمح هو علامة الموت عن العالم والحياة. أمّا رمزية العصافير فهي ارتبطت بالرّوح وقدرتها على مفارقة البدن لحظة الوفاة وتظلّ تحوم حول الجثة حتّى تحميها من التحلّل إلى أن تعود الى البدن مرّة أخرى وهكذا هو المسيح ضحّى بجسده لكي يعود من جديد.
فكلّ هذه الرموز تحيلنا إلى الدّلالة التالية. فالمراة العجوز هي رمز إلى الخطيئة التي ارتكبها أبو البشرية آدم ولا بدّ من محوها والانعتاق منها بالتضحية أي بالموت ويأتي القمح في هذا السياق ليرمز إلى الشهداء القدّيسيّين وباستشهادهم وقبولهم الموت يكونون قد أعطوا بعملهم هذا نموّاً للإيمان المسيحيّ وبغزارة كحبّة القمح ثم تكون العصافير هي رمز للانعتاق وإصلاح تلك الخطيئة فتأكلها بكلّ أخطائه وذنوبه وتعيد إلى الحياة صفاءها ونقاوتها وطهرها. وتقترن العصافير بالرمز إلى المسيح الذي ضحّى بجسده من أجل أن يطهّر الأرض.
أمّا النموذج الثاني:
الرصيف المقابل يعجّ
بالظلام
كيف سأعبر؟
لا مصابيح ترشدني للمعنى
المقتول.
يستند الخطاب الشعري في هذه الومضة إلى مراجع موغلة في الإيحاء والتّرميز يحفر في الذات كما يحفل في الذاكرة صوراً وكائنات متفاعلة مع الأسطوري والإنساني والطرح الفلسفي والقلق الوجودي. فأمين الذيب يحوّل العناصر والأشياء من إطار حسّيّ متصل بحميمية الأمكنة (الرصيف إلى إطار فكري وفلسفي معبّراً عن هواجس الذات المغتربة والمحتارة «كيف سأعبر» هي كلمات موجزة تقدّم صوراً شعرية مدهشة وتختصر المعنى في غير المألوف الدلالي «الرصيف»، «الظلام»، «المصابيح»، «المعنى المقتول» فالشاعر أحدث علاقة جديدة بين المفردات.
وفي ختام الومضة بين لا مصابيح ترشدني وللمعنى المقتول حقّق انزياحاً فقد جمع بين المعنى الذي هو مجرّد غير محسوس واسم المفعول المقتول الذي هو فعل ماديّ حسّيّ وهنا نتوقّف لكي نفكّ رموز هذه الومضة حتّى تنجلي لنا الدلالة، ولعلّ موطن الثقل أو النواة التي تدور حولها بقية المكوّنات هي الرصيف. فهو يرمز في الظاهر إلى الانتظار، ولكنّه في الباطن يرمز إلى ذلك اللّقاء الذي وقع بين البابا كيرلز السادس والشحاذ باسيلي على الرصيف والقول الشهير الذي ارتبط بهذا اللقاء بينهما إذ أوصى البابا الشحاذ بأن يذكره عند المسيح. هذا اللقاء الذي جمع باسيلي الشحاذ الذي ينتقل من رصيف إلى آخر إلى أن انتهى به المطاف على الرصيف المقابل للكاتدرائية القديمة حيث تمّ اللقاء بينه وبين البابا لزمن قصير ثم اوصاه بأن يذكره عند المسيح وفي الوقت المحدّد عند الساعة الحادية عشرة ولمّا كان البابا واقفًا في الشباك وهو يراقب الرصيف رأى نارًا متحرّكة مصدرها المكان الذي يفترشه باسيلي صاعدا إلى السماء وكانت تتضاءل وهي صاعدة فأسرع الخدم إلى مصدر النار فوجدوا العمّ باسيلي الشحاذ قد فارق الحياة ورأسه متدلّية من على الرصيف.
فهذه القصة صاغها أمين شعراً حتّى يتحرّر من ضيق الأرض إلى امتداد السماء، ولكن كيف له أن يعبر وليست له مصابيح ترشده. فهذه المصابيح ترمز إلى الشحاذ باسيلي فاستدعى أمين الذيب رمزية هذه الشخصيات لتجسيم العذابات التي يعيشها. فالأنا الشاعرة فاقدة للفعل، عاجزة عن إدراك المعنى الحقيقي (المتمثّل في المقتول) وبالتالي نخلص إلى القول بأنّنا لا نحتاج في حياتنا إلى الوسيط بيننا وبين الحقيقة فربّ إنسان بسيط تجد عنده ما لم تجده عند علية الناس.
إنّ ومضات الذيب تعتمد على التّكثيف والإيحاء والرمز وتحتّم عليك أن تعمل فيها العقل والوجدان وتقاربها بمعاول معرفية متنوعة منها الفلسفة والديانات المختلفة والثقافات المتنوّعة. فكلّ ومضة تسافر بك بعيداً وتجوب بك آفاقاً لم تكن لتطأها من قبل، وتلك هي متعة النّص التي تحدّث عنها رولان بارت.
أنا أومض إذن أنا موجود، هكذا أراد أمين أن يخلّد اسمه بجنس أدبيّ يميّزه ويميّز عصره. ولعمري تلك هي سمة المبدع المتمرّد على ذاته وعلى السنن القديمة.