” صناعة المعاني “
لب كل شيء معناه. لب كل مسألة، لب كل قضية، لب كل إجتراح، لب كل إختراع، لب كل منظور، كل ما يرى، كل ما لا يرى أيضا. لب كل أمر معناه.
كيف نصنع هذا اللب. كيف نصوغه. كيف يصبح المعنى؟
لا بد أن نجتهد بالمحسوسات. نحككها حتى تلطف، وتلطف، وتصير مثل نور من معمل الكهرباء.
هكذا تحتاج المعاني إلى معامل لصناعتها. فلا غنى لنا عن علم الحيل.
علم الحيل إذن، هو أصل المعاني. هناك يتم الإبتكار العظيم، ويحيل إلى كل شيء معناه، فيتم إبداع الأشياء بمعانيها، وتصير لها صياغة دقيقة. وتصير لها قيمة. وتصير من معدن الذهب.
هنا يكمن جوهر الشيء. هنا يكمن جوهر الأشياء. هنا يبدأ الإنسان بالخطو فوق الأشياء، وبين الأشياء، يبحث عن معانيها. هنا تبدأ الرحلة الصعبة والقاسية للبحث عن المعنى.
هي إذن دورة متصلة، تبدأ بصناعة المعنى، ثم تبدأ بعدها بقليل، أو كثير، رحلة البحث عنه.
لا بد إذن للمرأ ، أن يقطع العمر كله، عمره هو ، مهما حال به الحول، في صناعة المعنى ثم يغذ في رحلة البحث عنه.
هذة هي حياة الإنسان كلها. هذا هو حظه منها: يصنع المعنى. ويبحث عنه. ولا شيء خارج ذلك، سوى العيش البهيم، يقلب الفيافي، في طلب الماء والكلأ. وينسى، وهو في هذة الحال، إنما يبحث عن المعاني، التي ليست من صنع معمل أخيه، إنما من صنع معمل الحيل الأعظم، الذي يند عن قدرة أخيه.
بهذا تكون الدورتان قد إتصلتا ببعضهما. تكون المركبتان، قد إتصلتا ببعضهما، تكون الحلقتان قد أخذتا صورة كوكبين تآخيا، وإندغما وإلتحما، وإندحيا الأقل في الأعظم، حتى إستحالا في صورة معنى واحد. المعنى اللب، الذي يظل الإنسان يبحث عنه ما عاش. ثم يوأرث رحلة البحث عنه، يورثها لمن يأتي بعده. يجعلها في عيني الإنسان، في جلبابه، تماما، كما تكون الإنسانية في جلبابها، عطشى إلى المعنى.
يحمل إذن الإنسان براءة الإختراع، براءة المعنى الذي إكتشفه، أو ذاك الذي إخترعه، ويتعهد توصيله. وهنا تكمن المشاق الكبرى، التي لا تقل حجما، عن مشاق إكتشاف المعاني، عن مشاق إختراع المعاني.
توصيل المعاني، أقله، بزنة إختراعها. هنا نكون أمام علم آخر مختلف، هو علم التوصيل. علم توصيل المعاني.
إنه أجر إختراع المعنى، بإزاء أجر إختراع توصيله. حتى بلوغ الغلوة والغاية.
نحن في هذا العلم، إزاء جواد أصيل يسابق ريحه، في بلوغ الغلوة، والوصول إلى الغاية.
المعاني حين تخترع، تحمل في ذاتها جين الوصول. لابد إذن أن تولد على ظهور الجياد السابقات. والمعنى الذي سقط عن ظهر الجواد، يتأخر في الوصول. ويصير بعد ذلك إلى الموت.
ماتت معان كثير، وهي في طريقها إلى محطاتها، لأنها لم تصل. سقطت عن ظهر جوادها. تحطمت. تشظت. تكسرت. إهترأت. فنيت. ماتت ولم تصل.
نحن أمام مسألتين، أمام مشكلتين: مسألة فوات المعاني. ومسألة موات المعاني. يؤدي بنا لتعطيل المعنى بعجز توصيله. فمشكل المعنى بعد إختراعه، بعد براءته، بعيد إبرائه بقليل، هو في توصيله. وصول المعنى، على ظهر جواده، هو غاية كل مكتشف وكل مخترع. هو سبق نبيل.
لكننا نكون بعد ذلك في محطة الوصول، نبحث عن أثره.
أثر المعنى، مثل أثر الفراشة. مثل أثر ظل الفراشة. مثل أثر ريقتها، أينما أرادت، أن تحط.
أثر المعنى، هو ذلك اللقاح الذي يغرس الجينات المولدة للمعاني.
فالمعاني تشق طريقها من أثرها. تتوالد من أثرها تتكاثر من أثرها. تنتج بعضها من بعض، أفراسا بكرا، أصيلة، صالحة لتكون عند الإستحقاق، في حلبة السباق.
المعاني، تدخل في سباق مع نفسها، مثل المهارى الأصيلة، تبدع السير. وتبدع المسيرة. وتبدع الأثر الذي يكمل شوط المسيرة.
إنها مسيرة الإنسان الباحث عن معناه، من خلال معنيين: معنى إكتشاف المعنى في آلة الطبيعة. ومعنى إختراع المعنى في آلته.
إنه الذهاب إلى الحياة، بعقل المعنى في حقول الحياة كلها. لا حياة خارج حقول المعاني. وإلا صرنا إلى الصحارى. صرنا إلى تصحير الإنسان. صرنا، إلى طيه طوبة فيها. بحيث يذهب الطين في الطين.
إيليا أبو ماضي، سبقنا إلى القول:
نسي الطين ساعة أنه طين
يضعنا إذا أبو ماضي، في رحلة البحث عن المعنى في قالب الطين عندنا.