تحت الركام
العالم العربي كله تحت الركام. مثله مثل لبنان. مثله مثل غزة. مثله مثل سوريا، مثله مثل العراق ومصر والسودان وإفغانستان.
الناس إعتادوا العيش تحت الركام، منذ ظهور إسرائيل. يعرفون مسبقا، أنهم غايتها، اليوم أو غدا. ما عادوا يأبهون لتهديداتها. ما عادوا يأبهون لغاراتها. ماعدوا يأبهون لأطنان القنابل ولا لآلاف الصواريخ التي يستضيفونها، في أبراج غزة ولا في اللاذقية ولا في الجولان ولا في الغوطة ولا في القامشلي. صاروا يحسبونها، جزءا من الحرث والغرس. يذهبون إلى بيوتهم، كأنهم يذهبون إلى الجنة. يذهبون إلى حقولهم، كأنهم يذهبون إلى الجنة. يذهبون إلى أعمالهم، كأنهم يذهبون إلى الجنة.
إعتادوا القضاء والقدر طيلة قرن مضى. صارت إسرائيل وحشا كونيا. يخرج كل يوم من زرائب الغرب، ليتلف زرعهم. ليدوس مزارعهم، ليخرب بيوتهم.
إعتاد عليه الناس، وهو يعيث فسادا في غزة. في كل فلسطين. وهو يعيث فسادا، في سوريا ولبنان والجولان.
“وحش كوني”، يضرب بآلته العسكرية، يضرب بذراعه القوية الغربية، بيوت الآمنين. يضرب مدارس الآمنين ومستشفياتهم، ويحيلها إلى ركام.
صار من عاداتنا اليومية، أن نعيش تحت الركام. أن ننام تحت الركام. أن نأكل تحت الركام. صار من عاداتنا اليومية أن نحب تحت الركام أن نعشق تحت الركام. ما عادت الركاميات ترهبنا.
ركام كل هذا العالم العربي. ركام بركام بركام.
هل نتحدث عن لبنان الركام. عن سوريا الركام. عن العراق الركام. عن اليمن الركام. عن مدن الجزيرة الركام.
ركام يزحف من غزة والقدس والغوطة وإدلب والرقة ودرعا البلد، وطرابلس،وبيروت وجرود عرسال. يزحف من المخيمات. يزحف من السرايات. يزحف من المطار. يزحف من المرفأ علينا.
زحوف الركام واحدة علينا. على العالم العربي. على الأعاريب. على الأعاجم. على شعوب العالم المتمدنة.
زمر جائعة لا تشبع، إلا بعد أن تنهب العالم. تعبث بمسرح جريمتها، وتحيله إلى ركام.
“وحش كوني”، سادي، مكلف بإحالة العالم إلى ركام. لا يخطئ العناوين، ولا تخطئه العناوين. يبحث عن الذهب. أينما وجده إلتقطه، ولو في أسنان الموتى. ولو في أضراس الشهداء.
هل أدلكم على ركاميات المدن في الأرض. خذوا غزة نموذجا. هكذا تفعل الأذرع المعدنية، في القدس وطولكرم والجولان. هكذا فعلت في العراق وإفغانستان، وفي دوترويت، وفي البرجين. وفي تشيرنوبيل ونكازاكي وهيروشيما. هكذا فعلت في سيناء، وفي العلمين.
هكذا فعلت الأذرع المعدنية، ببيروت وطرابلس، وأحالتها إلى ركام.
زحوف من الركاميات، تزحف علينا، حتى تصير الأرض زحلوفة من ركام.
تحت الركام، عاشت الإنسانية الوادعة، مثل زهرة نبتت في فلقة الصخر. ومعاول الهدم حولها، ما فتئت تفت العضد والصخر.
لا شيء أشقى من المجرم على نفسه. يعدم النهر، ويعبئه زجاجات .. زجاجات للبيع. يعدم الأطفال تحت الركام، وينتشل ألعابهم، وأثداء أمهاتهم وعلب الحليب. يعرضها للبيع.
مجرمون يقبعون في مكاتبهم، يديرون كوارث العالم، من هارلم حتى جنوبي إفريقيا، حتى مالي، وإفغانستان.
زعماء، تسيل دماء الشعوب على ثيابهم. تخط عليها، خطاطات مدن هدمت، وبلادا قصفت، وشعوبا أبيدت، وأجيالا ما ذاقت طعم النوم، من شدة النار والحرب.
ترسانة خلف مصرف. وزعيم جائع مثل كرونس، يلتهم أطفاله، حتى يؤبد ملكه في الأرض.
كيف يدخل الكواسر والعقبان، المجمع المسكوني. ينشرون الرحمة في الأرض.
غزة اليوم، تسيل دماؤها على وجه العالم. غزة تزحف ركامياتها، تزحلقها، حتى يصير العالم كله، تحت الركام.
غزة، جرحا نازفا، سرة الأرض. غزة جرحا نازفا، قبلة الأرض.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية