مغارة الحرامية
من تقاليد السلطة، أن يكون لها فتيان، يسرقون لها. يودعون المال المسروق، في الخزانة الخاصة برئيس الفتيان، المغطى من رأس الهرم. والتي عادة ما تكون في مغارة الحرامية.
كل العواصم القديمة، كانت لها مغر على أبوابها. ذكر لنا المؤرخون، مغارة الحرامية على أبواب بغداد، في الطرق المؤدية لها من الجهات الأربع. كان باب البادية، أشهر تلك الجهات، لأن فتيان الخليفة، كانوا عادة من الأعراب.
وكان للشرطة في الطريق إلى المدن والقصبات القريبة، مغر خاصة بهم، يودعون فيها المسروقات، للخلفاء والوزراء.
كانت هذة المغر المالية، أشبه ما تكون اليوم، الصناديق السوداء.
وكان على باب دمشق، من جهة الطريق إلى حمص، في محلة “طلوع التنايا”، مغر خاصة بالحرامية، محروسة ومضمونة، برعاية والي دمشق.
كان للقاهرة أيضا، مغر للحرامية، في الطريق إلى الهرم، وفي كعب جبل المقطم.
كانت هذة المغر، خزانات المال الرديف، لخزانة حكام القاهرة. ينفقون منه بلا حساب.
وكان على أبواب الإمارة، في جبل لبنان، مغر خاصة بحرامية الأمير. كان أشهرها مغارة الحرامية في عينبال. وكثيرا ما كان جنود الأمير أنفسهم، يكبسونها، وينهبون منها المال المنهوب أصلا، ويعودون به إلى الأمير.
وكان على أبواب بيروت، مغر خاصة بالحرامية، لجهة رأس بيروت، ولجهة نهر بيروت، ولجهة الطريق إلى الجبل، وإلى الجنوب.
وكان لمدينة طرابلس، التي تقع على ضفتي نهر أبو علي، الآتي إليها من وادي قاديشا، ضهر المغر. وكانت هذة المغر فيه، هي لوالي المدينة، ورجال “التحصلدار”.
وكانت “ساحة التحصلدار”، المعروفة بطرابلس، هي على مسافة قريبة من “وادي هاب”، حيث مغر الحرامية. كما كانت قريبة من مغر القلعة، فوقها، المشرفة على نهر أبو علي.
كانت مغر الحرامية، خلف كل العواصم، تابعة في معظمها، إلى الولاة والسلاطين والحكام. وإلى كبار الجباة، من التحصلدارية والقضاة. وكان رئيس فرق الفتيان، التابع لرأس الهرم في السلطات كلها، مخول بكبس المغر، وجباة الأقاليم، وسراة القوم و الموسرين والأثرياء.
بإزاء صناديق السلطة المعلومة، كانت تقوم صناديق السلطة المكتومة. الأولى توفر للسلطة أموال الضرائب و الجباية. أما الثانية، فهي توفر لها المال المنهوب. وكان رأس السلطة يلجأ لصناديق المال المنهوب، لأنه لا يقع تحت حساب. أما أموال الجباية والضرائب، فكانت لا تصرف، إلا بموجب التوقيع عليها، من ديوان النفقات. ولذلك فهي كثيرة التعقيدات.
وكلما كانت السلطة تتقدم وتتحضر، كلما كانت نفقات الحكام و الرؤساء والوزراء والقضاة، تؤخذ من الصناديق الشرعية للدولة. أما الصناديق السوداء، فهي للنفقات السرية، وللنفقات غير الشرعية.وعادة ما تكون هذة الأموال، مكتومة القيد. ولا يعرف بها، غير المستفيد منها، وجهة صرفها. فهي تمثل المال الأسود للدولة. أما أموال الضرائب، فهي تمثل المال الأبيض.
لبنان، إذا كان معروفا بسحر طبيعته، فهو معروف أكثر بمغره السوداء.
نشأت هذة المغر لحرامية السلطة، منذ نشوء الكيان. وربما قبله بزمان وزمان. ولكنها لم تكن أبدا، على مثل ما آلت إليه الآن.
مغارة الحرامية، صارت في كنف القصور الرئاسية. صارت في كنف الوزارات. صارت في كنف الإدارات. صارت في كنف المصالح المستقلة، وفي كنف مصالح الدولة، غير المستقلة.
صارت الصناديق السوداء، ظلالا سوداء للصناديق البيضاء. فلا يقطع إيصال مالي معلوم، مالم يقطع له إيصال مالي غير معلوم.
صار رؤساء الصناديق البيضاء يطالبون الزبائن، جهارا ونهارا، بمعلوم المعلوم.
فلا يمر قطع المعلوم، بغير معلومه المكتوم. وهو عادة لصالح رأس الهرم، في كل أهرامات السلطة الصغيرة والكبيرة عموما. ولهذا يتحدث الزبائن من المواطنين، عن إيصالين ماليين، أمام كل صندوق: إيصال الدولة، وإيصال الصندوق المكتوم.
تجربة السلطة اللبنانية الراهنة، سبقت سلطات العالم كله، في تشريع مغر الدولة. ومغر حكام الدولة. ومغر أهل العقد والحل في الدولة.
صار المواطنون، يمرون على مغاور الحرامية، قبل مرورهم على الصناديق البيضاء. وصار الجباة يشرعون الأسود لتحصيل الأبيض. صار مال الحرامية، له طريق شبه مشروعة، إلى جيوب أهل الدولة.
لهذا نرى “السمنة” في بيوت أهل السلطة، في حين أن الصناديق البيضاء تشكو من “الهزالة”. صارت الدولة مغارة الحرامية. وصار لهذة المغارة، أبوابها المشرعة في كل الوزارات، وفي كل الإدارات، وفي كل القصور .
صارت دارات سيدات أهل السطة مقصودة. يحتضن في أحراجهن، صرر المال الأسود. صارت أحراج سيدات أهل السلطة، صناديق سوداء، ومغرا للحرامية. تتم فيها الإيداعات الدفترية السوداء المقبوضة، بموجب دفاتر مخصوصة، لكل حرامي: رجلا كان أم إمرأة.
حدثتني زميلة في سني عملي مدرسا، أن إمرأة رئيس، كانت تجعل في خزانتها، دفترا لكل زائر أو زائرة. كانت الصفحة الأسبوعية، أكثر من مدونة، للنشاط الأسود. أكثر من مدونة للمال الأسود. أكثر من روزنامة للعمل الاسود. فلا تصيبها الترقيات، إلا بموجب الشهادات السوداء لها.
كانت الشهادات السوداء أعظم وأخطر من الشهادات البيضاء.
تجربة السلطة اللبنانية الراهنة، شرعت المال الأسود والشهادة السوداء. والعمل الأسود. شرعت الشبهات. جعلت لها أبوابا مخصوصة مقصودة. جعلت لها مغارة رمزية للحرامية. يسلك منها العابرون إلى ترقيات الوظيفة العامة.
مغارة الحرامية، غدت مع السلطة الراهنة، في صالات السيدات والأبناء والبنات. وأولاد العمومة والخؤولة. مغارة الحرامية، صارت في الدارات، يبحث عنها الأوروبيون والأميركيون ليفرضوا على أهلها العقوبات.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية