المسألة اللبنانية
كثيرة هي المسائل العالقة في العالم. نستطيع أن نعددها. نستطيع أن نحددها. نستطيع أن نقاربها. نستطيع أن نشبهها. ولكن كل واحدة من هذة المسائل في العالم اليوم، تختلف جذريا. وتختلف نوعيا. وتختلف مادة. وتختلف محنة عن المسألة اللبنانية. وهذا لعمري سر تعقيداتها. وسر إستعصائها. وسر تبرم العالم كله، قبل العالم اللبناني منها.
عرف العالم المسألة الأرمنية. وعرف المسألة الكردية. وعرف المسألة القبرصية. وعرف المسألة الكوبية. وكذلك مسألة الكوريتين. ومسألة الصينيتين. ومسألة فيتنام. ومسألة كشمير. عرف العالم المسألة الفلسطينية. وعرف المسألة الإرلندية. ومسألة الألمانيتين، ومسألة الألزاس واللورين. ومسالة الصحراء الغربية. وأيضا وأيضا مسألة الهند وباكستان. ومسألة شعب الإيغور. ومسألة الشعوب الهندية. ومسألة العرب الرحل. ومسألة العرب العاربة والعرب المستعربة.
كثيرة هي المسائل في العالم. القديمة منها. والمحدثة والمعاصرة. وتلك التي مر عليها الزمن.
ولكن جميع تلك المسائل، التي عددناها. أو تلك التي كتمناها. أو تلك المغفلة منها، أو التي عمدا، أغفلناها، هي جميعا معا، لا تساوي في شيء، غلظ المسألة اللبنانية، ولا كثرة عقدها، ولا حبل تعقيداتها.
قست المسالة اللبنانية، على اللبنانيين والعالم أجمعين، حتى أغرقتهم بطميها. فاضت عليها جميع مسائل العالم، حتى صارت جزءا منها. حتى صارت “ضغثا على أبالها”.
حبلت مسائل العالم في أوطانها، وأولدت في بلادنا، تحت أرز الرب، فصارت تلك المسائل المغتربة مسائلنا. نجوع لأجلها. نعطش لأجلها. نموت في الدفاع عنها.
مسائل العالم كله، تبناها لبنان، بشذرها، وبمذرها. حتى صارت مسائله بالتبني، لدى عائل، لا تنقصه كثرة العوائل. ولا ينقصه كثرة عقوقها.
لبنان يريد أن يكون، مثل تركيا، “صفر مشاكل”، “صفر مسائل”، ولكنه سرعان ما يجد نفسه، غريقها كلها، على يد (……)
جمهورية علمانية، تريد أن تستعيد الولايات العثمانية. تريد أن تستعيد الخلافة العثمانية. تريد أن تستعيد الخلافة الإسلامية.
لم يدع اللبنانيون قضية إلا خوضوا فيها. لم يدع اللبنانيون، لا مسألة أوحربا إلا خاضوها. ناصروا الخمير الحمر. وناصروا الألوية الحمر. وذهبوا للقتال في التشاد. ناهيك عن حروبهم، في إفغانستان وفي التركستان. ناهيك عن حروبهم في شمال الأناضول، وفي جنوب الأناضول. ناهيك عن حروبهم، إلى جانب كاسترو وغيفارا. ناهيك عن حروبهم، إلى جانب فرانكو، وهتلر وموسوليني. ناهيك عن حروبهم في إفريقيا كلها. وفي جنوب إفريقيا، وفي آسيا كلها وفي شرق آسيا. ناهيك عن تمركزهم في الغرفة الفرنسية في “المكمل”، وفي مغر جزين وقلعة جبل نيحا. وفي وادي السباع وجبل أكروم. وفي تلة الروس.
لبنان بلد ممحون بالمحن، يستدعيها أينما كانت. لبنان بلد منكوب بالنكبات، يحملها على ظهره منذ قديم الزمان، ولا يعيا بها.
لبنان جريح الحروب كلها. لبنان شهيد الحروب جميعها. لبنان جندي معاق، في كافة الجبهات، ولا يتأخر عن حضورها، ولو على عكازه. يقطع يده ويضرب بها. ثم يمضي دهرها يشحذ عليها.
لا يوجد بلد في العالم مثل لبنان، يشتري الحروب، ويراهن عليها في سباق الخيل في “بارك” حرج بيروت.
لا يوجد بلد في العالم مثل لبنان، يلعب بأرواح أولاده لعبة الصولد على البكرة، في كازينو واشنطن، أو في كازينو موسكو، أو في كازينو لاس فيغاس، أو في كازينو هونكونغ، أو في كازينو أريحا في فلسطين، أو في كازينو المعاملتين، شمال بيروت.
على طاولة الحوار، في قصر الصنوبر، وبحضور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي هب إلينا بعد تفجير مرفأ بيروت. وضع اللبنانيون جميع أوراقهم عليها. أحضروا جميع أمواتهم. جاؤوا بنتف من أكفانهم. جددوا جميع معاركهم القديمة والحديثة: من اليرموك حتى القادسية وحطين. وحتى معارك عين دارة، وجبيل وعكار، وجبل عاملة ووادي البقاع. حتى معركة عنجر ونهر بيروت، وصولا إلى بادية تدمر وقلعة فخر الدين المطلة على سلمية ونواعير حماه، وجبال أرمينيا وجبال العلويين.
جاؤوا بقتلاهم من جميع المعارك التي خاضوها، ونسوا برهتهم الساخنة. نسوا برهتهم الراهنة. مروا عليها مرور الكرام، وافقوا عليها وفاقهم، “بلا شروط”.
والسؤال: من يأخذ لبنان إلى فرن الإنصهار من جديد. يزيل عنه غباره القديم. يريح كفيه من عبء التاريخ. ينفض عن يديه ورجليه، زنجار قيوده القديمة. يرمم عنقه ويمشق قامته، من كثرة الإنحناء. من كثرة التجارة والعمالة والعتالة، وبيع طواحين الهواء. من كثرة البيع والشراء.
من يوقظ اللبنانيين، إلى لحظتهم الراهنة!.
المسألة اللبنانية، أم المسائل في العالم. فلا خلاص ولا مخلص، قبل أن تحل مسائل العالم كلها، ولا يعود أمام اللبنانيين، فرص الإتجار بالمسألة. فرص إستجرار ولو مسألة، ولو من شرق كنعان!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية