الفقد ينعش الذكرى رماداً
——–
يثقل الفقد أيامنا صفعة تصحي أوجاعنا على ما آلت اليه الأحوال ..
كيف لا يضيق قلب زميلنا الشاب الطموح فاتشيه بالهموم حد إنبلاج الشرايين حزناً في سهوة منه وهو الغارق بركض يومي خلف فكرة لعمل لم ينجزه بعد ؟ كيف لا يتسلل السكري والضغط الى أجسادنا ونحن مهمومون بحسابات عمر يندثر كحلم كأننا لا عشنا كفاحه يوما بيوم ولا إمتدت أيامنا إنتاجاً من الفجر حتى منتصف الليل ..طافت الدموع فاتشيه على فقدك لأننا نبكي أعمارنا .
كانت زميلتي تسألني ألا تنامين تراني عند الرابعة فجرا بكل نشاطي أحضر لنشرة الصباح بعد ليل مناقشات تمتد حتى منتصف الليل لجلسات مجلس وزراء في مقره الذي لم يستخدم الا لفترة وجيزة ..في زمن العصر الذهبي قبل إنتكاسة الإقفال كان تلفزيون لبنان ملاذنا لنتجاوز آلام الحرب وما خلفته بأن البلد قادر على النهوض أتيناه من مشارب متنوعة وهذه ميزته كان بيئة صالحة للتفاعل للمحبة والإلفة رغم الهنات إلى أن حولوه بتدخلاتهم وحساباتهم ومحسوبياتهم الى خربة تشبه صورتهم وما آلت اليه البلاد من خراب ..
أصابتنا الخيبة بأحلامنا برواتبنا التي إندثرت وتعويضات نهاية خدمتنا التي علقنا عليها الآمال لتبقى معلقة بالليرات الممسوحة في صندوق الضمان ونحن لا راتب تقاعدي ولا تأمين صحي لنا بعد إنتهاء عملنا ..كيف لا نموت قهراً ونحن على قيد الإنتظار ؟كيف لا تصبح الوجوه التي كانت تضج فرحاً حزينة ؟.. أتلافى النظر اليها كي لا ينكشف الألم خلف العيون المكسورة المهمومة الفاقدة لبريقها لمتعة العيش .
الوباء عزلنا خلف جدران المكاتب والأقنعة لكنه لم يحجب أحزاننا المشتركة التي أثقلت قلوبنا بالأسى وأنهكت أجسادنا وسلبتها الحيوية منذ أن فقدنا الإنتماء لوطن لمؤسسة مصغرة عن صورته بكل تفاصيله فكيف تبقى مرقداً لمن أرادها رائدة تحمل هموم شعب متعب منهوب بكل يومياته صامت حد الخرس لأن التناتش يمنعه من الصراخ وبعضه ما زال لصيق الزعامات والطوائف يهاب منازعتها والمجاهرة بحقوقه .
جُردت المؤسسة التي كانت بيتنا وأملنا من مقومات العمل ولولا معدات حديثة للنقل المباشر كانت مخزنة أفرج عنها قبل سنوات وإرادة قلة بالسير عكس التيار لما بقي صوت لتلفزيون لبنان ولا حتى من يرفع الصوت ليبقى لهذه المؤسسة جزء من دور رغم كل التشويهات والتدخلات التي يقذف المسؤولون بها بإزدحام طلباتهم في غياب مدير عام ومجلس إدارة يخطط وينفذ ويراقب ويحاسب.
فاتشيه مسؤول قسم الغرافيكس كان واحدا هو واحد من كل منا من كثرة أرادوا النهوض بالمؤسسة ومن قلة صعدوا على أكتافها دون عناء .. لطالماجمعتنا سهرات نعد فيها جنريك لبرنامج او لتحقيق مطول بعيداً عن جداول الدوام في عمل لا يعرف الساعات ولا يحتسبها ككل إبداع تولد الفكرة بكلمة بنص كان فاتشيه يفكك رموزه كالبرق كالوحي الذي يلهمه ويقول امنحوني بعض الوقت أثقلوا عليّ بالمتطلبات أريد أياماً زائدة لأنجزها لكني متعطش لذلك أحب هذا العمل وينحاز للإبداع.
لا تمنحنا الحياة فرصة إنجاز ما نريد لا بل تسلبنا حتى نعمة الفرحة بما أنجزنا وهو كومة رماد.
لا يغنينا سوى ذاكرتنا المليئة بتغطيات الحروب بمهنية ومحاولة صياغة السلام التوافقي المفقود حاولنا أن تكون وحدة البلاد مقياس عملنا ولم ننجح في لم الشمل الذي كنا نسعى اليه ..وكم نبكيك ونحن نبكي وطناً حلمنا به وإذ به بيتاً متصدع الجدران وبلا سقف بيتاً بمنازل كثيرة ..كم كان الصباح جميلاً منذ السادسة تدب الحياة في الدخول الى المؤسسة بوجوه مبتسمة فرحة بالعطاء كم كان أول الشهر فرحة أمل للعودة الى منازلنا محملين لأطفالنا بالطلبات الصعبة المنال بعد تسديد المستحقات وكم وكم …كم تشاركنا تلك الفرحة بإنجازات غب الطلب بأقصى الجهد وأقصى الألم كيوم غزة المفتوح على الهواء على مدار الساعة الذي أنجز بإسبوع واحد وغيره الكثير لم نتأفف يوماً من بذل المزيد من الجهد من العمل قبل أن تصيبنا الخيبة بجعل بيتنا مؤسستنا صورة عنهم و لهم ..مؤسسة بلا رأس ولا إدارة تنزف كل يوم بالتحايل على واقع مرير لضمان الإستمرار
ياعزيزي فاتشيه, نبكيك والحزن يغلبنا برحيلك ونغبط الموتى لأنهم أغمضوا أعينهم للراحة الأبدية ونحن ندرك أن الآتي أسوأ فلن يشهدوا ما تبقى من اسى ..