حكاية “بعد” النوم
يُنصح بوجود الأهل(…)
تحلّقوا حولي سأروي اليومَ لكم
قصّة تركت في قلبي غصّة، لا أنساها، فقد زالت وما زالت ذكراها.
ذات ليلةٍ وبعد الأصيل، استراحت الشّمس بعد نهار طويل ، وحان دور العائلة أنْ تجتمع سويّة عند العشيّة بعد عناء العمل.
ها هي تستعدُّ للإحتفال بعيد ميلادي؛ قالب حلوى وبضع شموع وعلب هدايا تكدّست وازدحمت في الزّوايا ،فتآلفت ألوانها وباتت في غاية الشّوق تنتظر فكّ أسرها من الشّرائط الملوّنة الّتي تلفّ جيدها بأجمل الألوان، وتزيّن عنقها بورود نيسانيّة واصطناعيّة، تنتظر أن تتوّج جدائل شعري المخمليّة المنسدلة فوق كتفيَّ كسنابل قمحٍ ذهبيّة.
كلّ شيء بات جاهزًا إلّا أبي الذي لم يبقَ من الوقت على وصوله سوى ما يقارب العشر دقائق، هي مسافة طريقه إلينا من حانوت المفرقعات التي ننتظرها في “الصّالون” ليرقصَ على وقعها ذاك البالون الهليوميّ.
فجأةً لعلع أزيز الرّصاص، كأنشودة الموت الّتي كان آنذاك يعزفها القنّاص، وراح في الفضاء يلعب لعبة الغمّيضاء، فيكرّ ويفرّ فوق سطح بيتنا الجبليّ كلعبة السّيف والتّرس، وطبعًا لم يكن هذا احتفالًا بعيد ميلادي..
وسادَ الهلع وخيّم الرّعب، فَعَلا صراخُ الخوف، وراح بعضُنا يسأل بعضَنا :
ماذا حدث؟
ماذا يجري في الخارج؟
أين أبي تراه الآن؟
وزغرداتُ البنادق تزداد قوّةً وتتبارى عنفًا وصخبًا، فتفرّقنا داخل البيت ليختبئ كلّ واحد منّا في زاوية من زواياه الدّاخليّة—وفق خطّة سريعة بأمر من أمّي الّتي احترفت فنّ الاختباء وأساليبه نتيجة خبرتها الطّويلة إبّان الحرب— ليحمي نفسه من تراشق الرّصاص الذي كان يدور حول بيتنا بشكلٍ هستيريّ، ويكاد يصيب جدرانه.
لا أعرفُ كم من الوقت قد مرّ علينا ونحن نرتجف خوفًا وذعرًا وهلعًا وقلقًا على أبي وعلى أنفسنا، جاهلين ما يدور حولنا،ولا نعلم أسباب المعركة، ولا نعرف أبطالها.
وعلى غفلةٍ من لحظة استراحة القذائف، حضر أبي مذعورًا ومشدوهًا لانشغال باله علينا وعلى حاله إذ اضطرّ أن ينكفئ إلى جانب أحد المفارق المؤدّية إلى البيت، خشية الرّصاص الطّائش المتفلّت من مستزلمين طُيّاشٍ لم يّفوِّتوا عليهم فرصة استثمار ضمائرهم، فباعوها واستراحوا.
وأخيرًا هدأتِ المعركة، وانتهى الفيلم الأميركي الطّويل وفق المقولة المعهودة .
لن أقول إننا انتفضنا من تحت الرّماد كطائر الفينيق ،تلك الجملة الإنشائيّة الّتي اعتدنا سماعها ،لكنّنا كنّا كالصّوص المنتوف ريشه ، يُبلّلنا عرق الخوف ، وتعلو وجوهَنا صُفرةُ الدّهشة والحَيْرة والجزع.
وفي صباح اليوم التالي خرجنا كالأرانب من جحرها ، وكالأفاعي بعد سباتها، نستكشف الخبر اليقين ليتبيّن لنا أنّ أحد منازل الجيران الذي يصطافون فيه كلّ عام ، قد سُرق ونُهب، وأنّ ما جرى لم يكن سوى مشهد تمثيليٍّ مسرحيّ إيمائيّ ، وما كنّا له إلّا شهودًا سُمّاعًا.
ومع مرور الأيام اعتدنا على حضور المسرحيّات، فباتتِ الأهداف واضحة، والأبطال معروفين..
لا شيءَ يتغيّر سوى الأدوار البوليسيّة، وبعض المواقف الدراماتيكيّة.
عايدة قزحيّا
من:
مجموعتي القصصيّة