كتب عضو ادارة ملتقى الأدب الوجيز في لبنان الدكتور باسل الزين مقالة حملت عنوان ” النص الوجيز ” وقد نشرتها جريدة ” البناء ” في بيروت.
موقع ” ميزان الزمان ” يعيد نشرها للإفادة ولاطلاع أصدقاء وقراء الموقع على هذه الدراسة القيّمة .
جاء في المقالة :
لم تعد مسألة تداخل أنماط التّعبير وأشكاله مسألةً إشكاليّة بمعنى الرّفض والقبول، بقدر ما أصبحت مسألة إبداعيّة تُحاكي جماليّة الخطاب، والقيم الفكريّة والإنسانيّة التي ينطوي عليها. بهذا المعنى، برز استخدام مصطلح «نصّ» بوصفه مصطلحًا جامعًا مانعًا لقولٍ يشتبك فيه الصّراع الذاتويّ بين رفد مجرى الشّعر، وتتبع سياقات النثر الجميل، واقتناص أجمل ما في القصّ من روحيّة السرد، وطرافة المغزى.
وعليه، لم ينأَ الأدب الوجيز عن هذه المسألة، بل دخلت في صلب اهتماماته منذ أن سعى إلى تقعيد تصوّراته النظريّة المقرونة بالأشكال التعبيريّة.
من هذا المنطلق، سعيت جاهدًا إلى نحت، إن جاز لي استخدام هذا التعبير الكبير، مصطلح جديد يكون بمثابة إضافة جديدة تُسهم في فضّ الالتباس التصنيفيّ بين ومضة ووجيزة.
حقيقة الأمر أنّ الأدب الوجيز أخذ على عاتقه التّمييز، حتى الآن، بين الومضة والوجيزة، أي بين المنحى الشعري والمنحى القصصي. لكنّ المفارقة تحدث أحيانًا عندما ننعم النّظر إلى مقطوعة أو شذرة تنزل في منزلة بين منزلتين، فتكثر التأويلات، وتعظم النقاشات، وتتعدد الآراء. لذا وجدت من المناسب، هنا، اشتقاق مصطلح «النص الوجيز».
قبل تبيّن ملامح هذا المصطلح، أرى من الضروريّ إيضاح أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: إنّ تداخل أنماط القول ليست حكرًا على الأدب الوجيز، بل هي، كما أسلفت، قضيّة استأثرت باهتمام نقّاد كثيرين، بدءًا من القصيدة العموديّة، وليس انتهاءً بقصيدة النثر أو الشّعر المنثور…
الأمر الثّاني: إنّ تكريس مصطلح «نصّ» ليس هجينًا على ثقافتنا العربيّة، شاهدنا في ذلك أنّ شعراء كثيرين، وكتّابًا مرموقين، لم يتوانوا عن استخدام هذا المصطلح في معرض طباعتهم مجموعة من الكتب التي لا تأخذ شكلًا أدبيًّا معيّنًا، أو تتبنّى قالبًا محدّدًا. نذكر على سبيل المثال: كتاب في حضرة الغياب للراحل محمود درويش الذي دوّن أسفل العنوان المذكور كلمة نصّ، قل كذلك عن كتب المفكّر والشّاعر أدونيس – وإن لم يستخدم هذا المصطلح صراحة – مثال: موسيقى الحوت الأزرق. ولنا، في هذا السياق، أن نستحضر مؤلّفات جبران وما استحضرته في الأذهان من مشكلة تتعلق بالتصنيف بين الشعر والنثر.
على ذلك، يأتي النص الوجيز ليكون سمة مشتركة تجمع بعض خصائص الومضة، منضافة إلى خصائص الوجيزة. بعبارة أوضح، قد يحمل النص الوجيز خصائص الومضة التكثيفيّة والإيجازيّة والإيقاعيّة والتجاور المفرداتي والتقيد بعدد الكلمات فضلًا عن كسر أنماط الحواس، وتقنية الصدم والإدهاش، والدفع بالخيال إلى أقاصٍ بعيدة ومناطق نائية، ومع ذلك يستلهم بعض عناصر الوجيزة لجهة حضور الشخصيات، ووجود الحدث وتناميه، ولو بشكل غير مكتمل.
عند هذا الحد، لا بدّ من تصنيف يخرج على حدود التصنيفات، ومن ثم، لا بدّ من استحضار كلمة نصّ على اعتبار أنّها تفي بالغرض، وتؤدي المقصود منها.
الحقّ أنّ الإبداع هو سمة التجديد في الأدب الوجيز. وما الحدود التنظيرية، والاقتبالات المفهوميّة، إلّا ضرب من مواجهة وعورة الأرض المتعرّجة التي تفضي إلى مآلات بعيدة، ومناطق غير مأهولة بالتعبير الإبداعي بعد. من هذا المنطلق، أيّ ضير في تكريس مصطلح جديد؟ وبأيّ حقّ نسلب الوجزيّ حقّه في ابتكار نصٍّ يحمل سمات الومضة والوجيزة في آنٍ معًا؟
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ النص الوجيز يجب أن ينطوي على المداميك التنظيرية، والقواعد المفهومية التي أرساها الملتقى.
بهذا المعنى، لا يجوز أن نطلق اسمَ نصٍّ وجيز على مقطوعة مكثّفة وحسب، بل لا بدّ أن تتوفّر فيها السمات السالفة الذكر، مع إمكانيّة أن تضيف إليها أبعادًا جديدة من شأنها فتح مسارات قوليّة مختلفة، وتدشين نمط تعبير مختلف.
الأدب الوجيز نمط أدبيّ مفتوح لا يعرف حدودًا نهائيّة، أو أشكالًا مغلقة. الأدب الوجيز، منذ هذا المنظور، حريّة تتجسّد في قالبٍ تعبيريّ، وللحريّة ما لها من إبحار وتجديف واستشراف ورغبة دائمة في عدم الوصول!