..لمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لغياب والدة الشاعرة المهندسة ميراي شحادة ( ابنة شاعر الكورة الخضراء الدكتور عبد الله شحادة ) كتبت الشاعرة ميراي شذرة أدبية , ننشرها في موقعنا قبل أن تنشر في كتابها الجديد الذي يحمل عنوان ” بوهيمية” والذي سيصدر في وقت قريب.
هنا المقطوعة :
في معصرة الزّيتون
أعودُ اليومَ لأتفيَّأ بهمسات تزمجرُ في ذاكرتي، أناجي بها غربتي، وأُلبسُها لثامًا أحجب به تارةً عنّي جمرَ الأحزان وما اعتصرَ في داخلي من أنين…
أعودُ اليومَ وصدى ضجيج العمّال في أذنَيّ، وأمّي تباركُ محصولَ الزّيتون في كلّ يوم، وتحصي أشولةَ الحبِّ الأخضر، وتبارك مع كلّ عمليّة جبرٍ بحبّها اللّامتناهي، معلّم رزق الله وزوجته فوتين وأولادهما العشرة الذين وُلِدوا بين ثلماتِ الحقول ونضرة الزّهور.
هي أمّي! تلك الأرملة في ربيع عمرها الخامس والثّلاثين، لم تعرف الكلالةَ، ولم ترهقها خيول الوحدة في مراتع الوجود! هي أمّي! بدرُ البدور وبرعم الخلود في أكمام الزّمن، سطّرَت أمجادَها وحيدةً في مسارح الخريف والشّتاء، في الرّبيع والصّيف، حتّى ما بعد الفناء!
كانت مواسم الزّيتون تمتدّ ما بين تشرين الثّاني وأواخر كانون: فيها تهلّل الأعياد في ديارنا، وتتفجّر الأماني في أماسينا. فأمّي، بفطنتها وحِجاها، كانت الدّرعَ الأوّلَ في بيدر الغلال، ترسم أقدارنا سطرًا سطرًا، وتحبكُ في سرّها عقودَ الجمان. تتبرّج بالقوّة والعنفوان، حتّى لا يُقال لها في كوسباي: “أيا امرأة، ما لكِ في أعمال الرّجال؟ بيعي هذه الأراضي وتمتّعي بثروتِها، الله يرحم الأستاذ عبد الله”.
وكانت أمّي تزداد إباء وإصرارًا كلّما طرقت هذه المساميرُ من الكلمات في مسامعها، فيزدان جبينها ألقًا وتهجّدًا.
تغدو باكرًا في الصّباح مع زُمرةٍ من العمّال إلى أرض الزّمرّد، لتُدثّرَ وجه التّراب الخجول بـ”تندات” بنّيّة، حتّى تحجبَ ضفائر الزّيتون عن شرايين الأرض ولا تبكي ساعة القطاف. وبين مدّ العصيّ وجزرها في فرط الزّيتون، كانت أمّي تُنشدُ تراتيلَ الأمل، وتُكابدُ بصمت، لعلّ المحصولَ يكون مباركًا في كلّ سنة.
وإلى الرّحى، في معصرة الزّيتون! هناك يعانق الأصيلُ نهاية المطاف، ويتصاعد البخورُ من ديار أمّي المقدّسة، وتنصهر الحبوبُ في شهقة كانون وتشتعل حممها عندما تقطر زيتًا في جرار الحبّ ودنان الزّمن.
توارت اليومَ أمّي! توارت خلف شلّالات الزّيت الأخضر، وهي تتوسّد تراب الزّيتون في جنان الوجود، وأنا…
وأنا في معصرة الزّمن، أمضي وحيدةً في حلمها البعيد وأهذي: “عودي يا أيقونتي، عودي!”.
فمن دونك تتلعثم أمامي الدّروب، وبراعم ذكرياتنا الورديّة تناجي من البعيد معاول العمّال ومناجل الفلّاحين.
وبين سمائك وأرضي شلّالات من النّدى تبلّل جمر الرّحيق، وقطرات من زيتك تبلسمُ وجعَ الفراق على جلجلة الطّريق!
# الشاعرة والكاتبة ميراي شحادة / 1شباط ( فبراير ) 2021 / دبي / لبنان
مين خلف ما مات
تضل ذكراها تجمعكن