( هذا التحقيق ينشر بالتزامن مع موقع ” بوسطجي ” )
زمن كورونا وما بعده في تأمّلات الشعراء
بقلم الناقدة والشاعرة هالة نهرا :
زمن كورونا المشرَّع على المجهول والذي يشعر فيه المرء عموماً بأنه معلَّقٌ في الهواء، رغم الحلول الجزئية والنسبية المجترَحة المؤقّتة في العالم، يشكّل الانعزال المفروض والطوعيّ فرصةً للكتابة والتفكير والتأمّل عند أهل الأدب والشعر. القلق في الحجر قد يتحوّل إلى مادةٍ إبداعية، والهواجس والتطلّعات قد تتكثّف أو تتقطّر في قصائد متفرّقة (تُنشر في مواقع إلكترونية إعلامية أو في وسائل التواصل الاجتماعي) وفي نصوصٍ مبتكرة أو أعمالٍ مستحدثة واعدة. غالباً ما يمثّل خيال الشعراء والأدباء ملاذاً ومنفذاً ومصابيح ومشاعل أو مغاوِر وعرازيل على الأقلّ وفي الحدّ الأدنى، لا سيّما في ظلّ المراحل الملتبسة والمعقّدة؛ “الخيال أهم من المعرفة؛ فالمعرفة محدودة بما نعرفه ونفهمه حتى الآن. أما الخيال، فيشمل العالم وكل ما ستتم معرفته وما سيتم فهمه إلى الأبد”، قال ألبرت آينشتاين… هل يكون الخيال الأدبي والشعري الإبداعي راهناً منقذاً أو معيناً في جانبٍ ما بتليينه حديد الواقع وباستضاءاته وتأمّلاته وحَفره ورؤاه، ولو بصورةٍ غير مباشرة تتمظهر تباعاً في مسار؟ السؤال لا يحتمل إجابةً متسرّعة والكتابة الراقية في أيّ حال تشكّل فعلاً ثقافياً وحضارياً مطلوباً. حول هذه الفترات الشائكة حيث يسبر المرء غور وحدته مغترباً عن الآخرين وعن العلاقات الاجتماعية والتفاعل عن قرب، وحول زمن ما بعد الآفة، طرحنا أسئلةً على عددٍ من الشعراء والأدباء والكتّاب من مصر والعراق وسوريا ولبنان: عبدالله السمطي، وأمين سعدي، وعامر الطيب، ونوال الحوار، وآغنار عواضة، وبلال المصري. كلٌّ منهم أجاب عنها بدوره على طريقته وبأسلوبه، نعرض الأسئلة هذه بدايةً قبل عرض المداخلات.
_
* كيف تقضي معظم وقتك في زمن كورونا في ظلّ الحجر وإلى أيّ مدى في الانعزال عن الناس المفروض، أو الطوعيّ، تجد راحةَ البال أو آفاقاً مغايرة وفرصاً مختلفة للكتابة الثقافية أو الأدبية أو الشعرية؟
* كيف ترى مرحلة ما بعد زمن كورونا؛ هل تعتقد أنّ الحياة الثقافية والعامة فيها ستكون مشابهة للحياة التي كانت قبل الآفة، لناحية النبض والإيقاع والحركة والمفاهيم والرؤى؟ ما الذي قد يتغيّر يا ترى؟
الشاعر المصري عبد الله السمطي
الشاعر المصري عبد الله السمطي قال : “زمن جائحة كورونا أو كوفيد ١٩ هو زمنٌ ملتبسٌ وأكثر غموضاً، فلأوّل مرّة في التاريخ ينتشر وباءٌ بين الناس في العالم كلّه بهذه السرعة، ويكون له هذا الكمّ من الضحايا والمصابين، عكس الأوبئة والكوارث الصحيّة السابقة التي اجتاحت العالم وكانت محكومة وتنتشر في مناطق معيّنة من العالم، ولأوّل مرّة كذلك يصبح هناك ارتياب وشكوك وهواجس حول صحّة الوباء وتصنيعه ونشره، بكل حال كانت الجائحة مناسبة عالمية لطرح أسئلة جديدة، وشخصياً أنا منعزل قليلاً قبل الجائحة وحين جاءت كنت متدرّباً على العزلة والبقاء في البيت، لكن عزلتي إيجابية أمارس فيها الكتابة والقراءة بشغف، واستفدت منها في إنجاز بعض الدواوين الشعرية والكتب النقدية، وعلى الرغم من إصابتي ببعض المتاعب جرّاء كورونا إلاّ أنني تجاوزتها بالصبر ثم بمداومة الكتابة وأيضاً بتسجيل عدد كبير من قصائد الشعر العربي ومن قصائدي على “يوتيوب”، فضلاً عن كتابتي لعددٍ كبير من المقالات والدراسات النقدية. أمّا في ما يتعلّق بمرحلة ما بعد كورونا، فأتصوّر أنّ مسألة الثقة الإنسانية بالرموز قد تغيّرت، هناك فقدان كبير للثقة بهم، خاصةً في ما يتعلّق بالمستويات الطبّية التي للأسف أثبتت أن البعد التجاري المادّي عندها أهمّ من القيم الإنسانية، سوف يقلّ التواصل الفعّال الحقيقي بين البشر ويعتمد أكثر على التواصل التقني، سوف يتدهور البعد الحيوي للعقل الإنساني مع التوسّع في التعليم الإلكتروني “أون لاين” خاصةً لدى الأجيال الجديدة، ومن وجهةٍ صحيّة سوف يحاول الناس ممارسة مقولة “الوقاية خيرٌ من العلاج”، لكن سيظلّ هناك نوع من القلق البشري من خطرِ مما هو قادم”.
الشاعر العراقي أمين سعدي
أما الشاعر والكاتب العراقي أمين سعدي، فقال : “من المعروف أنّ الكاتب يحبّ أن يكون منفرداً بطقوسه في الكتابة داخل شرنقته الإبداعية، بعيداً عن ضوضاء الخارج، لكن هذا لا يعني أنّ الكاتب نفسه لم يتأثّر بشكلٍ كبير بالعزلة خوفاً على نفسه وغيره من انتشار الفيروس. وهنا لا يمكن أن أبني عالمي الخيالي وأنا بعيد عن طاقة الآخرين، ولا يمكن أن أبدأ عملية الخلق من مكان الحزن والانكسار لمدة طويلة. إن مساحة عملي اليومي ونشاطاتي هي الواعز للغوص بعمق في شقوق الإبداع، وإن الحجر الصحي كان بالنسبة لي بمثابة فرصة لاختبار الصوت الداخلي والتفكير بما يحتاجه هذا العالم من تعاطف في هذا الوقت فقط. أما محاولة الكتابة الشعرية، فقد أثرت العزلة على إطلاق دفعة من مشاعر الإحباط والقلق في الكثير من قصائدي.
حسناً، قد يبدو الأمر أشبه بالتكهّن على اعتبار أننا لم نجتز حتى الآن مرحلة التخلّص من الفيروس، لكن يمكن القول إنّ إيقاع الحياة الثقافية والعامة قد اختلف إلى حدٍّ كبير وربّما في بعض البلدان بشكلٍ جذريّ… إنّ عالمنا وحياتنا كما عرفناها قد تغيرت بين عشيةٍ وضحاها. وقد يكون ذلك قد أثّر على عمليتنا الإبداعية. إنّ التغيير الحاصل في ظل جائحة كورونا اليوم يتعلّق بالسفر من الحياة الواقعية إلى قلب الافتراضات، والعوالم الرقمية، وهو ما سيؤثّر سلباً على إيقاع الحياة ومفاهيم العلاقات الاجتماعية، والحركة الإبداعية، وذلك لأن الكتّاب أو غيرهم يفتقدون اليوم إلى القصص والمواد البحثية، وعيش تجارب الآخرين. بالإضافة إلى توقّف الكثير من دور النشر عن العمل حول العالم بفعل الجائحة.. إن زرّ الإيقاف المؤقّت العملاق أدّى إلى بناء جدار عقلي لعملية الابتكار والإبداع لدى الكاتب، مع ذلك بدأ الكثير من الكتّاب حول العالم اليوم بإطلاق إبداعهم المكبوت أو الكتابة عن الجائحة بقدر ما يستطيعون عبر سعيهم إلى استكشاف موضوعات السلوك الاجتماعي والرومانسية والاتصال بالطبيعة والعلاقات والاكتئاب من خلال قصصهم أو رواياتهم أو نتاجهم الشعريّ”.
الشاعر العراقي عامر الطيب :
الشاعر العراقيّ عامر الطيب , قال : “الكتابة بالنسبة لي هي عملي العاديّ حدّ أنني أكتب يومياً وفي التوقيت نفسه غالباً وكشخصٍ وحيد لم أتأثّر بالعزلة التي فرضتها الجائحة فقد انطويتُ على نفسي منذ زمنٍ بعيد واكتفيتُ بالتواجد على الـ”فيسبوك” فقط، هنا أقرب أصدقائي و أكثرهم أماناً وتوهّجاً. الحياة بالنسبة لي ليست موجودة في الشوارع والمقاهي والمجالس فقط، إنها في الحقول وفي الكتب أيضاً وقد تبدو أقرب من خلال نافذتي. لكن هل ستكون حياتنا بعد كورونا مشابهة لما قبلها؟ بالطبع لا؛ فالحياة نهرٌ جارٍ لن يكون ماضيه مثل حاضره وببساطة شديدة فإن أيّ حدث ضئيل يمكنه أن يترك تأثيراً على مساره إلاّ إنه لن يشكّل إعاقة لمجراه.
سياسياً، توقّع الكثير من المفكّرين والباحثين والمحلّلين تغييراً هائلاً في أنظمة العالم بعد الوباء فقد رأى هنري كيسنجر “أنّ النظام العالمي سيتغيّر إلى الأبد” وكذلك ماكرون الذي صرّح قائلاً: “إنّ اليوم لن يشبه غداً”. أما إقتصادياً، فثمة تبعات كثيرة إذ زادت حالات البطالة مع الحجر الصحي؛ الأمر الذي أدّى إلى زيادة القلق والإحباط وقد يؤدّي إلى زيادة نسب الانتحار كما يُتوقّع.
لكن من ناحيةٍ أخرى، كل هذه التأثيرات توفّر فرصة مناسبة لحياةٍ أفضل، لعالمٍ أكثر عدالة ومحبّة، إنّ الإنسان مع كل التغييرات التي يشهدها بنفسه سيظل دائماً بحاجة إلى أملٍ طفيف مثل ذلك الضوء الذي يدفعه للنهوض باكراً.
ثمة صباحٌ بعيدٌ وأليف يدعونا لأن نحبَّ حياتنا وأنفسنا ونثق بأنّ الغد سيكون أجمل وبأنّ العالم ذلك النسيج القويّ واللافت الذي يسحرنا دائماً لن تكون نهايته فجائعية كأبطال الأفلام”.
الشاعرة آغنار عواضة
أمّا الشاعرة اللبنانية آغنار عواضة، فقالت : “الأوبئة قديمة العهد وهي تلازم البشر في تجمّعاتهم الحضرية من الطاعون إلى الجدري والإنفلونزا، وصولاً إلى الكوليرا التي لا تزال تقتل الأطفال في اليمن، كما الملاريا في أفريقيا، وعلى الرغم من التطوّر الرهيب الذي أحدثته الثورة الصناعية والتكنولوجية في مجمل حياتنا، بقي القطاع الصحّي عاجزاً أمام حلّ معضلات الأمراض الفيروسية والسرطان.
في الحجر أفكّرُ كثيرًا وأستغرقُ في التأمّل بأسباب انهيار العالم أمام قوّة جبّارة غير مرئية… لا تقنعني نظريّات المؤامرة وإنْ كنتُ لا أستبعدها، وحتى لا أسقط في الفراغ أمارس رياضة المشي في الطبيعة، أكتب شبه يوميات عن أيّام الحجر، ألتقطُ صوراً للحياة حولي، أهتمّ بحديقتي، أطبخ وألهو بالعجن والخبز وأتعرّف إلى هواياتٍ جديدة لم تتح لي طاحونة السرعة التي كنا نعيش فيها ملامستها، هكذا أنتظر الشمس كل صباح وأستعير من ألوانها شعلةً تضيء النهارات السجينة، العزلة هي أفضل أيّام الكاتب الذي يرغب في الاختلاء بأفكاره وفي أن يتعمّق في دواخل الأمور.. طبعاً أنا أقرأ وأشاهد بعض المسلسلات والأفلام على “نتفليكس”، أنام باكرًا جدّاً مثل الدجاج لأستيقظ قبل صياح الديك، أساير إيقاع الطبيعة وحيواناتها لأنها تناسب مزاجي أكثر.. منذ فترة تخلّيتُ عن اليقين ومع كل طلعة صبح أعترف أن لا علاقة تربطني بنصوصي لكي أعيد تكويني بطريقةٍ أخرى لئلا يساورني الملل.
هناك أمثلة كثيرة تتعلق بالإبداع في العزلة الطوعية، ومن خلال كتابها “غرفة تخصّ المرء وحده” تؤكّد فرجينيا وولف على أهمية تواجد الكاتب في حيّزه الخاص مع أفكاره النابعة من ذاكرته وخياله وإدراكه وكل مصادر المعرفة.
كذلك مارسيل بروست في “بحثاً عن الزمن المفقود”، والفيلسوف هايدغر الذي اختار كوخه الصغير في الغابة السوداء مفضّلًا إيّاه على منصبٍ كبير في المدينة، كل هؤلاء اختاروا عزلتهم بدافع تحقيق وجودهم الذاتي.
ما نحن بصدده هو عزلة قسرية بسبب حجر وبائي يتسبّب بملايين الضحايا حول العالم، وهو سبب إضافي ينبئ بارتفاع منسوب الحساسية التي تصبّ غالبًا في مصلحة العمل المبدع الذي يجد طريقه للناس بواسطة شبكة الإنترنت وملحقاتها من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والبرمجيات الحديثة.
لا يمكن لعاقل أن يقول إنّ الحياة الثقافية والاجتماعية سوف تعود إلى سابق عهدها، ومع حتمية اندلاع أزمات إقتصادية كبرى حول العالم فإنّ تغيّرات عميقة سوف تضرب السلوكات الاجتماعية للبشر ومن ضمنها الحياة الثقافية.
لقد تضرّرت حركة المسرح والمعارض ودور السينما والمنتديات الشعرية والحفلات الموسيقية التي تحوّلت بمعظمها إلى شبكة الإنترنت، ما أدّى إلى تعزيز دور الفرد على حساب العمل الجماعي. هل عرف الإنسان قيمة ما كان لديه وخسره؟
كل زمن يخلق ديناميات إبداعه التي تسير بسرعة قياسية. القلق العميق السائد اليوم: هل يمكننا التخلّص منه بيسر؟ أم أنه سيزداد عمقًا مؤثرًا على مختلف مناحي حياتنا. كل هذه الأسئلة مشروعة ومطروحة بقوّة لكن من المؤكّد أن أنماط استهلاكنا لكل شيء سوف تتغير. ما هي القيم الجديدة التي يفرزها العالم ما بعد جائحة كورونا؟ تلك هي المسألة.
ما أتمنّاه هو أن يدرك الإنسان أنه ليس أهم كائن على هذا الكوكب ويتخلّى عن توحّشه ويقترب من غيره من الكائنات لأننا نقطة صغيرة في هذا العالم الهائل”.
الشاعرة نوال الحوار
الشاعرة السورية نوال الحوار قالت في تأمّلاتها في العزلة في بيروت:
“يقول سيغموند فرويد: “إلى الآن قادتْنا كلُّ الطرقاتِ إلى النور، بدءًا من اليوم ستَقودنا نحو الظلمة”.
لعلّ هذا هو الانطباع الأول عن كورونا. رغم الخوف والهواجس يبقى الأمل… والرجاء والدعاء الاحتياطيّ الذي يسكن دواخلنا ويشكّل خط الدفاع الأوّل لذواتنا. كلٌّ منّا، يسبر في هذه العزلة ذاته، ويعيد اكتشافها وترتيب أفكاره وأولويّاته في هذه الحياة.
لعلّنا أيضا في حجرة التأمل القسريّ هذه، نعيد إيماننا بالحياة… فتبدو لنا للوهلة الأولى اختصاراً لمسار من مشقّة وابتلاء. لكننا محكومون بالأمل ومجبولون على الإيمان. فالله الذي فرض علينا البلاء ليمتحننا، قادرٌ على أن يزيل كل منغّصاتنا ويأسنا وقلقنا برمشة عين، وإلا باطلًا سيكون إيماننا لو فكّرنا بغير هذا.
يقيننا أنّ النور أمامنا والظلمة ستكون حتماً وراءنا.. والنور لن يستمرّ لو لم يستقر بداخلنا إيمانٌ ويقينٌ بالقدرة على طرد شبح الظلمة واليأس فوراً، فمن المشاعر الكبيرة الصادقة تولد الأماني العظيمة.
سنصمد كما صمد أهلنا وقاوموا المغولي والتركي والفرنسي والإسرائيلي وكل غزاة العصور الحاضرة والغابرة. يقول محمود درويش: “لا تخف من أزيز الرصاص إلتصق بالتراب لتنجو/ سننجو… ونعلو على جبلٍ في الشمال”… أظنّ أنّ رمزية هذا النص الباذخ لدرويش تحيلنا إلى ما نحن عليه الآن من أمل. مَن يدري فربّما هذا الوباء سيغيّر ما في شخصيّاتنا ويقوّم ما لم تقوّمه الحياة. حتماً ستتغيّر حياتنا بعد هذه التجربة، وحتماً سنلتزم فضيلة التضامن والتكافل. المصائب الكبرى كما الحروب الكبرى وكما الفيروسات والأوبئة القاتلة، تغيّر في أعمق نظرتنا للحياة وتعيدنا إلى أصل الكون، وفي أصله لا مكان للأحقاد.
نكتب الآن من وحي الحجر لكن في ما بعد سنكتب القادم بشوقٍ أعمق حتماً. غيّرت كورونا طريقة الكتابة وستتغير أكثر. ستعلمنا تجربتنا الحالية مع كورونا التخلّي عن مظاهر الترف والبذخ والأبّهة. منذ بداية الأزمة، لم ألبس ملابسي خارج المنزل، وها أنا ألبسها فقط في البيت، محفوفة بقناعة تقول إنه لكسرِ الروتين لا بد للعزلة أن نُلبس العزلة ثوبَ الأناقة. يعلّمنا الانعزال معنى البعد والوحدة والمعنى الحقيقي للشوق والتوق لوجه الأهل والخلاّن. العزلة تُعلّمنا أيضاً معنى التلاقي، وقيمته أمام مرارة الهجر.
العزلة ليست ضعفاً وهروباً بل هي من سيلقننا درساً مفاده أن تمشي حرّاً معافى تتنشّق الهواء ملء الرئتين. غداً، سنهرول باتجاه بعضنا فرحين بالنجاة، ونتعانق ونضحك على ما مضى؛ سيطلّ علينا فجرٌ جديد فيه تقييمٌ جديد وتنقية لسلوكنا وأرواحنا.
لسنا وحدنا في عزلة في هذه الدنيا… الدنيا أيضاً معزولة تنتظر حراكنا وضحكنا… وهنا لا بدّ من بعض التساؤل والظنون.
ظننتُ أنّ النظام العالميّ الجديد وما تسببّ به من سقوط أنظمة هو الذي سيُفضي إلى نهاية الكون، وإذ بوباء مجهول الهوية يتقدّم صوب هذه المهمة التدميرية. لا بد من إعادة ترتيب الأولويات عبر الحدود. لعلّنا نحتاج اليوم أماناً صحيّاً أكثر من أيّ أمان آخر.
سقطت شبكة الأمان الاجتماعي بسبب الحروب والفتن، ثمة أمل بأن تعيد المصيبة الجماعية العالمية صياغة الأولويات الإنسانية لوقف هذا الجشع الإنساني الذي يدمّر كل شيء. هل كنا نحتاج لوباء كي نعيد هيكلة عجلة الحياة: الإرهاب، الفقر، النزوح؟
مَن يراجع التاريخ يعرف أنّ الأوبئة أسقطت أمبراطوريات. لقد فضح هذا الوباء نزق الأنظمة العبثية التي تسيطر على عالمنا..
الشاعر بلال المصري
من جانبه، الشاعر اللبناني بلال المصري قال :
“لا شكّ في أن العزلة أو الانعزال يمثّلان المناخ الطبيعي لفعل الكتابة وهذا ما يكون عليه الكُتّاب معظم الوقت. لكن اليوم وبسبب الوباء الذي فرض الانعزال على جميع الناس.. كأنّها دعوة لجميع البشر للتأمّل بمسار الحضارة البشرية التى باتت تفقد جوهرها الإنساني في سبيل التطوّر التكنولوجي والصناعي على حساب الإنسان وعلاقته بنفسه ككائن يجب أن لا يتوقف عن البحث عن غاية وجوده الحقيقية. أحياناً أشعر بأنّ الطبيعة تدافع عن نفسها وتدفع الإنسان للتراجع والكفّ عن العبث بعناصرها متهافتاً خلف التكنولوجيا التى تتسبّب في دمار الطبيعة فكما شهدنا خلال الحجر عندما توقّفت المصانع وانعدمت الحركة الميكانيكية والآلية عن العمل كيف أنّ نسبة الاحتباس الحراري تراجعت وتقلّصت نسبة التلوّث في الهواء نتيجةً لتوقّف هذه المحرّكات الصناعية. لا أعرف إن كان سيكون بعد كورونا هذا الـ”بَعْد”.. أم أنه سيكون علينا العيش والتأقلم مع هذا “الكائن” إلى الأبد. إنها مسألة وقت وسنكتشف ذلك. لكنّ المؤكّد أنّ العالم تغيّر وأنّ كائنات جديدة تفرض وجودها وتحتل مساحة كبيرة في وعينا المعاصر ولا نعرف ماذا بعد؟!…
لذلك أتوقّع تغيُّراً جذرياً في الثقافة الإنسانية وفي فهم ومفاهيم العلاقات البشرية.. مثلاً قد لا تعود القبلة ما يعبّر عن الحرارة في العلاقات الدافئة بين البشر وربما تصبح المصافحة شيئاً من الماضي.. نحن أمام حاجة للإبداع والخلق والتجديد في الثقافة لتعزيز العلاقات والتواصل الإنساني مع الذات والآخر واحترام الطبيعة التى نحن جميعاً شيءٌ منها.. لذلك لا بد من الآن من رصد المتغيّرات في السلوك الإنساني من خلال المنتج الفكري الثقافي لنفهم ماذا حدث وما الذي تغيّره الأجوبة عن ما كنا نعتقده أم أنّ الأسئلة هي التى تبدّلت وعلينا البحث من جديد عن الإنسان الذي يستطيع أن يتلامس مع التجارب دون خوف من العواقب”.