قرإت الشاعرة دارين حوماني في مجموعة أحمد ضياء الشعرية.. وقد نشرت دراستها اليوم في ضفة ثالثة- العربي الجديد
“ورقة ميكانيكية للحياة” لأحمد ضياء:
بغداد كلها بلون الغرق
أول ما يلتقيه المرء في مجموعة أحمد ضياء “ورقة ميكانيكية للحياة” (أبجد، 2020) هو الوجع العراقي المزمن. ويمكن اعتبار المجموعة، وهي الثالثة للشاعر الحائز على دكتوراه في المسرح، هي نفسها سينوغرافيا المسرح الوجودي، الأرض الفوقية للوجع، فالعراق بكل كائناته يتوجّع هنا. سنكون باستمرار أمام قصائد بصرية مفتوحة على الحب والموت والغضب والذاكرة المثقلة من ذاتها في قصيدة واحدة.
العناوين التي اختارها أحمد ضياء لقصائده كلّ منها قصيدة كاملة، “الجحيم بعكّاز وساق مقطوعة، الكذابون إلى الجنة، حياة على إيقاع أميركي، موائدنا عامرة بالجثث الآلية، هويتي أضعتها، كيف تكون عظيمًا في بلد لا عظيم فيه إلا الذات”.. وغيرها من العناوين المحمّلة بالزمن المحفوف بالألم، العاجز عن التغيير، المتخفّي في يومياته الملوّنة بالأحمر القاني. ولا يستسلم ضياء لذات الأسلوب في الكتابة، كتاباته أشبه بهذيانات عبثية يرميها أحيانًا كمن يرمي حجرًا في نهر، أو يفردها لنا في قصيدة مطوّلة يتفنّن في تعذيبها بالصور بالكلمات. سنعثر على قصيدة من أربعة أسطر ثم سنعثر على مطوّلة شعرية تتنفّس بغضب مزدوج من اللـه والكائنات والحياة، ومن الفوضى والالتباس الوجودي. في شعر أحمد ضياء سوف نعثر على أعضائنا في المتاحف وطرقات مرسومة بالدم وكائنات مقصوصة الرقبة، وكأن ضياء يمسك بقطعة من الزمن، فزعة ومتوترة، ويسقطها فينا.
لا يرمّم أحمد ضياء المسافة المشوّشة بين الحياة والموت بالحب والفرح، بل بالسيقان التي تم قطعها حيث يظهر هذا الألم باستمرار في قصائده، ففي العراق قد يحدث أن تموت أكثر من مرة وبأشكال مختلفة أو على دفعات، وربما، كما في كل بلد عربي، “أسأل قاتلي رقم 14/ الأسلاك المزروعة في رقبتي/ ونحن موتى/ ماذا ستصنع فيها؟/ الساق التي تعبتُ كثيرًا في تربيتها/ هي الآن حبيسة التراب/ لا أستطيع الوقوف على ساقين متلاصقتين/ الألغام يا سيدتي/ هي أكبر الدلائل على الوجود/ ألمّ شامتكِ/ مع أجساد أكلها الصدأ/ نحن الآليون/ حين شمّعوا أعضاءنا في المتاحف/ فضّلنا عدم المقاومة/ كذلك تلافينا حقن أوردتنا/ بأعصاب جديدة من الذكريات/ الأحداث المرمرية تحدث دائمًا عبر أضواء عينيكِ”..
الرواية العراقية
سيعرّفنا ضياء عن كثب على الرواية العراقية بأدوات سمعنا عنها ولم نتمكّن من مشاهدتها في قصيدة “الأدوات متخمة بما تراه”، سيعتني ضياء بمشاهده حيث تصير الكلمات أبعد من المجاز وأعمق من السوريالية، وحيث الشعر يستجيب للواقع حرفيًا؛ ثمة طبقات من الصور المشبعة بحكايا فنون القتل في هذه القصيدة، إنه حديث المسدس، السكين، المنشار، والسيف، ستقصّ علينا كل أداة مونولوغها الخاص، فهي عاجزة عن ممارسة فعل الموت أكثر، “المسدّس: أتلذّذ بالنواقيس وهي تخرج من عنقي/ شاجّة المارّين/ السكّين: أحاول أن أخلق عالمًا رومانسيًا/ من الذبائح/ وأرسم الطرقات بالدم/ منشار: يومًا ما سأبحث عن ظلّي/ وأركب التضاريس من جديد/ سيف: مقصوص الرقبة/ الرذاذ”، وكأننا أمام مسرح من مسارح الوطن العربي المتشظّي الذي يصعب ترميمه بالشعر والكلمات. وفي قصيدة “الجحيم بعكاّز وساق مقطوعة” يقول: “ذباحون/ في عام 2006 لم يعد الرصاص مجديًا/ بات الذبح هو الوسيلة الأكثر تطرفًا في هذا البلد/ والأكثر رواجًا تلك النفحات الإيمانية”.
شعر أحمد ضياء هو حصيلة العلامات الفارقة في بلد تواطأ مع الموت مرارًا، هي عتمات لا تخصّ تلك الأمكنة وحدها، ستخصّنا أيضًا ونحن ندخل معه في مشهديات قلقة عن وطن خاسر بفعل حكّامه، يقول في قصيدة “حياة على إيقاع أميركي”: “أكره علم بلادي/ فالأحمر منه لا يمتّ إلى الوطنية بشيء/ إلا في تذكير اليتامى بسائل من آبائهم/ ..السياسيون في بلادي ألبسونا الدين الكاذب/ وعلّمونا كيف نكون طرشانًا غير مبصرين لشيء/ أكره العلم السابق فهو يحمل نفس عناوين العلم الحالي/ إلا أن النجوم الخضراء الثلاث/ أحالت أيامنا إلى جوع وحصار/ أكره علم بلادي فهو لا ينتمي للوطن/ بل لأشخاص يديرون دفّة المكان/ أكرهه لأنه لا يشبه العراق/ العلم العراقي مثل تشاكي chucky/ بحاجة ماسة لتعويذة/ فكل التوابيت المغلّفة به/ كانت مصدر حقد من الأمهات”. وسيمتدّ كره ضياء إلى ذاته في القصيدة نفسها: “الكره أحد عوائدي الساذجة/ أنا أكره نفسي/ لأن ارتباطها بي غير لائق بتاتًا/ كما أني أكره كل تلافيف وجودي الراعف/ فالأرض لم تُخلق لي ولا السماء/ لعلي أعرف مكانًا يناسبني في ظرفي هذا أكثر”..
علاقة قصائد أحمد ضياء مع الكائنات المعذّبة حميمة، علاقته مع الجوع والخبز حميمة، مع أشياء وطنه التي تملي عليه ما يكتب، يقول في قصيدة معنونة بـ”الكذابون إلى الجنة”: “عندما يُقرع ناقوس الحرب/ على النساء أن يلدن بطرق غير شرعية”، وفي قصيدة “موائدنا عامرة بالجثث الإلهية”: “نصدّر الدم والمقابر/ ونستورد البارود لأبنائنا/ نحن المهزومون المنتصرون المتصارعون مع جلودنا/ نغسل الأصوات حين تفضّنا المآتم”، ويقول أيضًا:
“أراقب جبهة الجوع المسرعة/ أثمّن الأناقة في كيس خبز فارغ/ ولا أريد تذكير ذاتي بشهادتي الجامعية”، ولا ينسى ضياء أن يمرّ على شعراء العالم العربي، “لا أتذكر كلمة شاعر إلا عندما أتصفّح الفايسبوك/ الشعراء عادة يُصابون بالتورّم/ غير أني كلما كتبتُ نصًا مغايرًا/ أصاب بالتورّم/ أنزل درجة في الأرض/ هلولويا”..
ثمة حمولة زائدة من الغضب في قصائد أحمد ضياء، غضب من “القادر القدير”، غضب من المخزون الديني الذي يتغرّب شيئًا فشيئًا عن الشاعر بفعل فنون القتل المنتشرة على الأرض باسم اللـه: “لا أحبّ الحج/ لأنها أوراق ثبوتية/ على أنك يا قدير/ غير قادر على الغفران إلا بالمقابل/.. الوعي هو أكثر الأشياء ألمًا للإنسانية/.. الجحيم هو ساق اللـه/ الأخضر الأحمر اليابس/ المتفحّم بالضباب/..(اللـه أكبر) كلمة غريبة/ فالدنيا لا تقوم إلا بسكّين كُتب عليه بالطريقة الإسلامية/ ولا تقعد إلا على طريقة/ إذهب وافطر مع النبي و/أو عش مع الجواري واقتل مئة شخص بالرصاص”.
إلا أن القصيدة الأطول والأكثر غضبًا ويأسًا هي “(الإنجيل السادس) إنجيل أحمد على قرص DVD”، يشرّح فيها صاحب “فرانكفونية المسرح بين الأنا والآخر” المأساة الإنسانية والمسرح اللاإنساني بأكمله.. يأس يذكّرنا باعترافات إميل سيوران: “أب.. أب.. قواك تدبّ داخلنا بنرجسية فضفاضة.. يا صاحب الحكمة.. الوجوه الصفر تناغي الجوع بشحوبها/ الشر/ حين نكون على حافة الحياة/ ولا نضحك كثيرًا/ أب.. أب.. أغلبنا أجّل موته مرتين/ نحن الطيبون نُخترق بسهولة دائمًا/ رغم قراءتنا لنيتشه و”إرادة الحياة”/ الخيوط التي يتركها الموتى هي نصوصنا/ عذرًا سيدي الكوليرا/ أجد فيك اليوم رجلًا استطاع أن يفيد من كمية الدمار المراقة/ أنت أكثر رجولة منا نحن/ أنا وأنت وهم/ مجرّد أرقام ليوم لا ينتهي/ ربي خفّف عني الجنة/ ربي هؤلاء قوم أغاضوا قلبي/ شدّد عليهم الاتصال بك/ ربي العشاء داخل هذا الليل/ جعل منك وحيدًا تبتر الأصناف/ جد بديلًا للصباح الفائح برائحة الشواء/ الجحيم هو الطهارة في مزادك/ أب.. أب..”.
وينتهي أحمد ضياء ببيانه الشعري في قصيدة “بيان ما بعد الجندر الشعري” وفيه يقول: “.. أنا بوصفي سايبورغًا أعلن بدئي مرحلة جديدة بالحياة أنتمي فيها إلى عالم يستوعبني لا يمكنه أن يجرحني بكلمة، عالم بإمكانه دائمًا أن يقدّم لي وجبة دسمة من المفاهيم، عالم تكون الضغائن فيه غير موجودة وإن وجدت فهي بنسب متفاوتة ويمكن التخلص منها بسهولة…”.
“شعراء المقابر”
عندما التقيتُ أحمد ضياء لأول مرة قال لي إنه يحب أن يقرأ ورفاقه في بابل الشعر بين المقابر، وإنهم قد سمّوا أنفسهم “ميليشيا الثقافة”، وفي مقدمة الأنطولوجيا الشعرية التي جمعوا فيها قصائدهم كتبوا: “هل قرأ شعراء نصوصهم وسط حقل ألغام؟ أو في مفاعل نووي مهدّم مليئة جدرانه وما حوله بالاشعاعات؟ أو في سيارة إسعاف أو على أسرّة المستشفيات؟”. لم يكن ذلك حدثًا عاديًا بالنسبة لي، وهو بالتأكيد ليس الحدث الأول، فقد انطلقت فكرة “شعراء المقابر” في القرن الثامن العاشر واستمرّت خلال القرن التاسع عشر مع ويليام كولن بريانت وجون كيتس وأوليفر غولد سميث وروبرت بلير وإدوراد يونغ وآخرين، لكن المؤكّد أن أحمد ضياء ورفاقه كانت لهم رؤيتهم المحفوفة بالألغام وبالسيقان المقطوعة وبالاشعاعات الكيميائية، فكانت قراءة الشعر بين المقابر فعلًا متماهيًا مع كل ذلك الرعب المقيم على الطرقات وفي الهواء وبين النفوس.
في شذراته الفلسفية “المياه كلها بلون الغرق” يكتب إميل سيوران: “ما دامت الهزائم حديث الساعة فمن الطبيعي أن يستفيد منها الإلـه. ها هو يتمتّع بشيء من الرواج بفضل المغرورين الذين يرثون لحاله أو يفعلون به الأفاعيل. ولكن إلى متى يا تُرى سيظلّ مثار اهتمام؟”، سنقرأ لغة سيوران هذه بين قصائد أحمد ضياء؛ قصائد أمعنت في الحزن وهي تقصّ علينا هزائم ضياء النفسية من الوجود كله.
# الكاتبة والشاعرة دارين حوماني / شهرياد الكلام