مرايا سيزيف وأحلام الفداء
(قراءۃ في قصيدۃ”حزني” للشاعر الدكتور محمد توفيق أبو علي)
حزني
حُزني يَدانِ وأدْمُعُ
وفمٌ يبوحُ فيُوجِعُ
وأنا شريدٌ تائهٌ
صَحْبي أسًى وتفجُّعُ
وأنينُ وجْدٍ هائمٍ
وتهجّدٌ وتضرُّعُ
أشكو إلى صُوَرِ المرايا[م]
وَحْدَتي… هل تَسْمَعُ؟
وأظلُّ أُوقِدُ في المرايا[م]
شمعتي… هل تَسْطَعُ؟
محمد توفيق أبو علي
حزني..قصيدة للشاعر الدكتور محمد توفيق أبو علي. وأي حزن يموج في بحر مشاعر الشاعر العربي التائه في صحراء الأحزان؟
أي بوح يكشفه الوجد المتشظي حروفا متعانقة في قوافل الأحلام السمراء البدوية؟
أي تضرع تطلقه يدا الشاعر الإنسان الملتزم قضية المعذبين في أرض الله التي لم تعد واسعة. أرض حرمتها المأساة الأمان، وذرف فيها الكمان دموعا ودماء؟
حزن الشاعر ليس حزنا ذاتيا. إنه حزن النازفين عذابا واضطهادا وآيات شقاء.
اليدان تتوسلان، تدعوان، تتضرعان، ولا من مجيب.
والدموع لآلئ تذرفها عيون تكاد تشرق بها على حد قال فيها المتنبي:
حَذَراً عَلَيهِ قَبلَ يَومِ فِراقِهِ
حَتَّى لكِدتُ بماءِ جَفني أشرَقُ
وقال المثل: “إن أصدق الدموع دموع الرجال لأنها نادرة. وليس بكاء الشاعر ضعفا بل تأثرا لمأساة إنسانية تبكي الحجارة، وتقلقل الجبال.
دموع الشاعر ذروة الوجع النفسي مع إدراكه أن الدموع لا تشفي الحزن، ولا تعزي الفؤاد. ولكنه تائه في بادية الألم، يرافقه الأسى والتفجع.فما أسباب تلك الحال؟ وهل يمكن ربطها بأسباب موضوعية؟
ونسأل لعل السؤال عن الدمع والحزن فيجيب الشاء: ما دور صور المرايا، في بلوى الشاعر المفجوع بالأحزان؟ وما علاقة الصور بوحدة الشاعر الشاكي المتباكي؟
تعيدنا صورة الشمعة الموقدة إلى المثل القائل: ” أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام”. والنور يصبح أسطع كلما اشتد الظلام.
ويظل الشاعر يوقد في المرايا. لعلها مرايا الذات، أو مرايا الخيالات المنعكسة على جدران الكهف. وتزداد الخيالات ظهورا كلما سطع النور.
محمد توفيق أبو علي، مأساتك غربة عرفانية في عالم حجري القلب والضمير. أما وحدتك وأنين وجدك والأحزان فهي صورة مكبرة للوطن المصاب بنيران صديقة أو كما قال الشاعر أصابه مقتلا “ظلم ذوي القربى” فبات أسير حزن حتى الموت. ولم يبقَ له إلا مرآة من الماضي تذكّره بالأمجاد الوطنية التي يبكي الآن على أطلالها.
ويكبر السؤال في ذواتنا عن سبب شعور الشاعر بالوحدة. أيكون سببّها عزلة معينة، أم شعور بالغربة التي خامرت المتنبي عندما قال:
انا في امة تداركها الله…غريب كصالح في ثمود؟
عودة إلى إشارات النص وإلى بنية الضمائر فيه، يلفت نظري ضمير المتكلم الياء المرتبط بأربع كلمات متتالية: حزن ي+ صحب ي+وحدت ي+ شمعت ي. وتجتمع هذه الكلمات في الترسيمة الآتية:
-حزني/ وحدتي
-صحبي/شمعتي
فالحزن متصل بالوحدة التي آلمت الشاعر حتى الرمق الأخير من التفاؤل.
والصحب متصل بالشمعة التي أوقدها، والأصح أضاءها، كي لا يلعن الظلام.
وقد تنقلب الترسيمة ليلتقي حزن الشاعر بصحبه ووحدته بالشمعة. فيغدو أصحاب الشاعر سبب حزنه لأنه يتألم بسببهم، أو بالأحرى بسبب حزنه عليهم. وتصبح الوحدة ظلمة تضيئها شمعة تفاؤل أوقدهاأ الشاعر أبو علي كي يطرد ظلام اليأس والموت عن ذاته المعذبة في غياهب الأحزان الأرضية.
من جهة مقابلة، يطالعنا، في بنية الصفات، اعتماد الشاعر سبع صفات تسم حاله وصحبه: شريد تائه
أسى تفجع أنين تهجد تضرع. صفات سبع دلالتها الكمال، أي كمال الحزن واللوعة، بعد صراع عميق وأحزان الواقع الأليم.أما بنية الاستفهام في نهاية القصيدة فتحدث تساويا بين السماع والسطوع: هل تسمع؟ هل تسطع؟ فاكتشاف الحقيقة/النور متصل بالسماع، أي بالأذن وفي ذلك استعادة لقول الشاعر:
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
ولعل الشمعة المقصودة في هذا اللقاء هي الشمعة المعيارية التي يصفها العلماء بقولهم هي وحدة قياس شدة الإضاءة ، وهي كمية الضوء التي يبثها جسم متوهج في اتجاه معين. وكلما زادت شدة استضاءة الضوء، ازداد سطوعه. ويشار إلى شدة الاستضاءة أحيانًا باسم قدرة الشمعة.
وقدرة الشمعة تساوي ذوبانها في بوتقة التضحية والفداء.
محمد توفيق أبو علي، أيها الشاعر الغارق في بحار تراث غير محدود، غائصا على المحار، في الأعماق، كيف لنا أن نقرأ بوحك خارج معيارية ذوبان الذات، كما الشمعة، في سبيل الفدا؟ وكيف يمكن للإنسان أن يكون محايدا أمام مأساة الفقراء والمضطهدين ، في كل مكان.
ولعلّ التحوّل من التقرير والوصف إلى السؤال يعكس انتقال الشاعر من اليقين إلى الشك، والتمرد، على واقع أضناه وصحبه، وأيقظ في ذاته القلقة ثورة على أية سلطة لا تعبأ بآلام البشر.
أيها الشاعر العرفاني، هل يمكن للشاعر الشاعر ألا يصغي لأنين المعذبين، وألا يوقد ذاته/شمعته، في سبيل خلاص البشرية المتألمة؟
طوبى لك أيها المقاوم ظلمات الظلم؛ وكن على يقين أن حزنك هو حزننا، وحزن كل مقاوم شريف شاء له التزامه حمل صليب الآلام، على درب جلجلة الآمال السيزيفية.
# د.جوزاف ياغي الجميل