الجزء الرابع من المقالة الادبية للناقدة الدكتورة مفيدة الجلاصي حول ” التذوق الابداعي في النص الادبي “:
مهما تكن الوسائل والأدوات التي، يعتمدها الناقد للإقناع فإنه “لا بد أن يواجه مشاكل الكفاءة الأدبية حالما يبدأ الحديث، عن الأعمال اللآدبية، ذلك أن ما يقدمه عبر خطابه النقدي إنما هو إنتاج للمعاني، يجعله واثقا من أن قراءته ليست قراءة عشوائية بل هي نابعة من معرفة أدبية وعلاقة وثيقة بالنص المقروء جعلته يدخل في جدل نقدي معه بتصورات فكرية أدبية تنتهي به إلى إجراء تحليل ثري بمتهجية توليدية منتجة للمعاني تعكس ما يمثله هذا القارئ من طاقة نقدية وبراعة في الاستنباط للدلالات لا سيما في مسألة تفسير الشعر ذلك “أن للشعر، معاني معقدة يصعب جدا توضيحها وازاء ذلك فإن المحلل يجد ان افضل، استراتيجية يتخذها هي، ان يتصور ان المعاني، التي، يشرع في تفسيرها، قد نقلت إلى القارئ، وبالتالي عليه أن يفترض، سلسلة من الخطوات العامة كمسلمات يتخذ، منها وسيلته لتوضيح، هذه المعاني واية معان اخرى مماثلة في قصائد اخرى” كما بين” جوناثان كولر “
إن هذا الحكم أو الموقف جوهري لأن قراءة الشعر عمل يفضي بالناقد الى انتاج المعاني وابتداعها بالاعتماد على سلسلة من القواعد التي امتلكها فأهلته لأن يكون خبيرا بالقراءة التحليلية التفسبرية،التي، تقوم على أساس، مضموني، دون أن تخرج عن سياق الاعراف الادبية المتفق وبذلك يسهم في بناء “نظرية الأدب” التي،هي” في جوهرها نظرية في القراءة” (انظر سامي منير عامر ” وظيفة الناقد الأدبي بين القديم والحديث ط1، دار المعارف 1984 ص 48)
رغم اختلاف توجهات النقاد وطرائقهم في التحليل والتفسير فانه لا يمكننا الشك في انهم اسهموا في بناء نظرية الادب وقد تجاوزوا في ذلك ما قدمته البنيوية التي تعطي الاولوية لواجب صياغة نظرية الكفاءة الادبية في القراءة النقدية تراعى فيها الاعراف الاعراف الادبية
على انه لا بد من التاكيد على ان عمليات القراءة تختلف باختلاف الاجناس الادبية كما بين الباحث ” جوناثان كولر” في مؤلفه” الكفاءة الادبية” في قوله” ولا احد يشعر بالازعاج من حقيقة أن الحدود بين الادبي واللادبي أو بين جنس أدبي وآخر تتغير بين عنصر وآخر وعلى العكس من ذلك فان التغير في أساليب القراءة يقدم احسن دليل على الاعراف الفاعلة في القراءة في فترات مختلفة “
ان القراءة المعتمدة على الاعراف الادبية لا تنفي ان قراءة الشعر عمل ابداعي وهو ما عبر عنه الباحث ” سامي سمير” ” بالقراءة الموحية ” ( انظر كتابه” وظيفة الناقد الادبي بين القديم والحديث” ص : 48)
والقراءة الموحية هي تلك التي تبعث على ” اللذة الجمالية” التي لا تبوح بسرها الا بعد كشفك عن جزئيات هذا الشكل ناظرا إلى مدى ” فاعلية خيال الشاعر ” في ايجاد علاقات في القصيدة بين اللفظة واللفظة منسقا بين هذا كله خلال ايقاع خاص كي تستوي في النهاية خبرة جمالية يعاود كل فرد متذوق معايشتها فتتجدد الخبرة الجمالية بين القارئ والمقروء ” كما اكد الباحث ” محمد مصطفى بدوي “
ان فاعلية خيال الشاعر هي التي تدفع النقاد الى الاهتمام باثر أدبي ما يتولاه بالدرس والمعالجة ليستخرج كوامنه بما لديه من قدرة تذوقية لمادة هذا الأثر لان عمل الناقد ينصب على الادب لا الاديب وبضاعة الناقد مادة مقروءة سطرت في كتاب يقرؤه ويفهمه ويحلله ويشرحه
ويبقى المقصود بفاعلية خيال الشاعر في ايجاد علاقات هو ما عنان” كولردج” بالخيال الثانوي الذي من اهم وظائفه انه يذيب ويحطم لكي يخلق مرة اخرى بطريقة اشبه بالصهر كما يرى ” زكي نجيب محمود ” في كتابه ” هموم المثقفين” ص: 253 ان ” الخيال يخلق للفنان ما لم يره في حياته قط لان الفنان يتمتع في خلقه بحرية لا تتوف لسواه من أفراد الناس”
ان خبرة الناقد بكوامن الأثر الأدبي تاتي بما امتلكه من كفاءة في قراءة تذوقية نقدية فيها الكثير من الخلق والابداع وتصاعد ” الوعي الثقافي” على حد تعبير الاديب الناقد ” مصطفى سويف ” في كتابه” دراسات نفسية في الفن ص” 32″ في تفسيره لمفهوم الوعي الثقافي إذ يرى اهميته البالغة لانه هو الذي يكسب خبرة التذوق دلالتها الوجدانية والعقلية لدى الناقد الذي يلم بما يسري داخل النص من عوامل الابداع الفني التي تضم اجزاءه وتجعله يبدو كيانا عضويا موحدا
بهذا تتجلى العلاقة بين المبلغ والبلاغ الادبي والمبلغ اليه وهي علاقة ذات مستويات متعددة ابداعا وقراءة ونقدا والذي يهمنا هنا هو الناقد الذي يقرأ الأثر الأدبي ثم يقدم انطباعه إزاء ما يقرأ فيحيل العملية النقدية الى عملية ابداعية بما لديه من قدرة تذوقية مؤسسة على معرفة نقدية ولقد كانت ل” طه حسين” اراؤه في قضايا الذوق الادبي’حين طرح موضوعات من قبيل : المثل الشعري الاعلى والذوق الادبي الحديث والمذاهب الفنية للشعراء ومصادر الجمال الفني في الأدب العربي قديمه وحديثه كما لا يفوتنا انه سعى في نقده الى فهم شخصية الشاعر أو الكاتب’وعصره وفنه لذلك كان سعيه حثيثا نحو إرساء نقد قائم على الذوق والمعرفة عندما يعكف الناقد على درس الآثار الادبية وهو ينشد حصول تالف فكري ووجداني بينه وبين ما يقرؤه ليخرج في اخر المطاف بقراءة تحمل رؤية جمالية في اطار خطاب نقدي لا يخلو من الابداع بما انه يعكس ما يمتلكه هذا الناقد من خبرة أدبية أو كفاءة نقدية
(يتبع)
# ( الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي / تونس )