” زاوية ” شهرياد الكلام ” ثمرة التعاون مع منتدى شهرياد الثقافي في لبنان , تنشر اليوم دراسة قيّمة للباحث سركيس أبو زيد الذي سبر أغوار الشاعر الشيخ نعيم تلحوق في قصائده ومقالاته الفلسفية التي تنطلق من العدم إلى الوجود, , وحكاياته في حب المرأة والوطن, وهروبه إلى الثورة بعد خيبات وإحباط , خاتما دراسته بعبارة قاسية قال فيها ” قتل نعيم العشيرة , لكن أحلامه الكبيرة تكاد أن تقتله “…
هنا الدراسة :
كتب الباحث سركيس أبو زيد(صاحب مجلة تحولات –إعلامي وكاتب):
نعيم تلحوق، شاعر جدلي بامتياز، يفتش عن الغياب ويبحث عن الحضور، يجمع التناقضات صراعاً وتناغماً.
وُصِف بأنه أصعب شاعر ولا يشبه إلا نفسه، لأنه من الشعراء الاستثنائيين الذين يُعبّرون في شعرهم عن الأحاسيس والعواطف والمشاعر التي تهزُّ الوجدان والقلب، وفي النص نفسه يرسم صورة معاناته وأحلامه ورؤياه النابعة من العقل والوعي، يشعر ويفكر معاً بلغة خاصة تحمل هويته وتعيد صياغة الكلمات ببلاغة تجمع حدي الملموس والرمز.
يركّز على حالته أولاً وعلى ما يشعر به وعلى ما هو فيه، ومن ثم يخيط من ذاكرته وذهنه وثقافته وواقعه المعاش قميص الشعر فيستعير من رغباته وشهواته وتطلعاته صور شعرية هي في الأساس موجودة في داخلنا وبمقدورنا أن نستعيدها ونحييها. قال أبو العلاء المعري: “تزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.
نعيم تلحوق لا يُقلِّد ولا يُقلَّد ويلامس كمال خير بيك وخليل حاوي وسرعان ما يفترق عنهما ليخط طريقه على طريقته. لا يستطع أحد أن يقلّده لأن شعره ملاصق له لذاته وأناه والقطرة لا تمرّ في النهر مرتين. أما أشعاره تعبّر عنه من دون تصنيع ولا تصنع وهو هو لا يتكرر.
صدرت له إحدى عشر مجموعة شعرية حتى الآن وهي تحمل العناوين التالية: “قيامة العدم”، “هي القصيدة الأخيرة”، “لكن ليس الان”، “وطن الرماد”، “هو الأخير”،(العقدية الأولى) ، “أظنه وحدي”، “يغني بوحاً” (ترجمها الى الالمانية د. سرجون كرم وجويل هولاند)، “يرقص كفرا”، “لأن جسدها” ، “شهوة القيامة” موصولة بكتابه الأول “قيامة العدم”.والتي تكون انتهت معها (العقدية الثانية )، الى (العقدية الثالثة) التي يبدأها ب ” فرس الكتاب ” والتي لا ندري بعدها ماذا سيأتي من عناوين لاحقة ؟
هكذا يستكمل الشاعر مسيرته في تصاعد درامي ينطلق من تفاؤل يقيني واثق بقيامة العدم وتجسده ليصبح الغياب حضوراً جميلاً. فاذا به يصل بعد تجارب مُرَّه ومعاناة متعبة الى أن القيامة متعثرة وهي مجرد شهوة مستمرة لا يمكن اشباعها في الحضور فهي غياب حالم نستولده في المرأة كما تجسده الحبيبة نرمين.
نعيم مسكون بالوطن والمرأة. أنهما جسد واحد في بعدين مختلفين. وهو قلق على جسد الوطن من الانقسام والفوضى، كما هو قلق على جسد المرأة من عبودية الحواس والضياع.
وعندما يواجه الخيبة والإحباط والقرف يهرب من الثورة الى التصوف والزهد والعزلة، وبسرعة يعود الى ساحة المواجهة حباً بالحياة وحتى يتمتع بالجمال والرغبات وغالباً ما يجسد الغضب والسكون معاً.
دواوينه التسعة الصادرة بين 1986 –2013 تضم أفكاراً وموضوعات وصوراً متنوعة، غالباً ما يتواجه فيها اثنان: يستعير الشاعر من حمورابي لوحاته ويحفر في الأولى الوطن وأخواته وهي ذاكرة التراب والأرض والزمن والضوء والمكان والرحيل والجنة والرماد. أما اللوحة الثانية ينحت فيها المرأة والجسد والبراءة والبوح والحرية.
هذه الثنائية تواكب الشاعر في ترحاله من العدم الى الوجود. في داخله يضج صراع الاضداد وهو معاناة وتمزق وتخطي. وفي الوجود الانساني، الصراع داخل الأمة وعليها هو حركة التاريخ. صراع لا ينتهي بغالب او مغلوب بل هو صراع مستمر وهو سر الحركة ومعنى الحياة.
ففي النفس البشرية مكنونان: مكنون الخير ومكنون الشر، فالانسان هو الضدّ في ذاته لذلك لا يمكن أن يرفض التسوية مع الاخر إلا إذا اختلف مع نفسه. فمن المستحيل أن تقبل التسوية مع الآخر اذا لم تجرب اختلافك مع نفسك، و اذا لم تختبر الصراع الذاتي النفسي في داخلك.
وهكذا يضع الشاعر نفسه في مواجهة دائمة مع الوجود – خصمه الوحيد – فبدأت رحلته من الفكرة الحلاجية التي تبدأ بالـ “هو” وتنتهي بال “هي” ، فكانت تجربته الشعرية الأولى تنطلق من القلق الى البحث عن الذات عبر أسئلة كبيرة، فخلص على حدّ تعبيره “أقلق اكثر وأحُب اكثر، كي أعلم اكثر، فلا معرفة دون قلق البحث، ولا نجاح دون حب المطلق”.
أما تجربته الشعرية الثانية بدأت عندما وجد أنه من الصعب عليه أن يغيّر الكون فعاد الى المطلق صديقاً، ودخل في دوامة الأسئلة الكبيرة المفتوحة على الآخر والتي لا تنتهى.
لم يعد هاجسه تغيير العالم فقط، بل سؤاله المُلّح اصبح “ما هو مصيري أنا في هذا العالم الغريب”؟
وبعد أن كان صوته يصدح رفضاً وتمرداً دون جدوى، اختار طريقاً آخر للتغيير بعيداً عن الصخب والضجَّة وقرر أن “يغني بوحاً” على أن لا يخرج الكلام من بين الشفتين بل أن يبقى طي الهمس والهمهمة والأنا والذات، كمن يتمتم بصوت عالٍ، ومن له أذنان سامعتان فليسمع، علّه من قوة الصمت يستخرج من القبح جمالاً.
نعيم تلحوق هو نتاج جدلية الشعر والفلسفة. وبداياته الشعرية كانت مع الفلسفة. مطلع شبابه قرأ كتب الفلسفة فهجر الطفولة باكراً ليبدأ بالاسئلة الكبيرة ، فلقّح وعيه بالقضايا الكبرى. جمع بين الفلسفة والشعر وبين اللون والأسطورة والتاريخ، فكانت قصيدته مشبعة بالفكر واستحضار الحضارة العربية وتطلعات النهضة القومية مع انحياز جدّي الى لغة غنية بالرموز والمفردات وهي أصدق تعبيراً وأبهى جمالاً ولها طعم خاص وهوية خاصة، إضافة الى تطعيمها بمزيج فلسفي وصوفي وبلاغة شعرية من ناحية تركيب الصور وخلق فضاء متخيل لا يشبه الامكنة المستعادة.
للشاعر تلحوق لغته المتميزة والفريدة وأسلوبه الخاص، يقول: “تغيرت القيم مع تغيّرالعصور والمفاهيم وعلينا أن نعترف أننا لسنا وحدنا في العالم ولسنا وحدنا نمتلك الحقيقة بل هناك آخر يفكر أيضاً فينا كما نحن نفكر بأشياء لا تخطر على البال، وهذا استدلال حقيقي واستقراء لفكرة مهمة هي أن الثقافة تواصل وتفاعل”.
ينظر في شعره الى جوهر الحياة وحقيقة الكون من خلال العمق والبعد الصوفي – الذي يتميز به – كما يعمل على تطويع النص والمفردات والشعر وربطها بالعقل، ولم يكتف الشاعر بالبوح شعراً بل له تجارب نثرية اخرى وكم مرة رفع الصوت عالياً في نصوصه الأدبية النقدية ومقالاته السياسية لتحاكي الواقع وتفضح “الحاكم الكافر” وتناصر “المجنون الباكي” وهما عنوانان لكتابان تحت الطبع. كما يحكي سيرة خطفه في قصة روائية عنوانها “انت مطلوب” وهي تجربة جديدة في الكتابة وتبشر بدخول الشاعر في حقبة جديدة نعرف مقدماتها الشعرية ونترقب قيامها من عتمة المعاناة.
يتميز نعيم تلحوق الشاعر بانه إنسان أولاً ويكتسب أهميته بأنه عملي لم يكتب الشعر وينغلق على نفسه وعن المجتمع، ولم يعزل نفسه في برج عاجي ترفعاً وادعاءً ، إنما راح يبحث عن الناس يتفاعل معهم ويعيش معاناتهم يشجع ويحرض على الابداع والتجربة وعندما يكتشف موهبة شابة، يرعاها ويشجعها لأنه يستمتع بفرح العطاء من جهة، ويجدد شبابه وأحاسيسه بالدهشة والابداع من جهة أخرى.
كتب العام الماضي خمس مقدمات لخمس شعراء شباب اصدروا كتبهم في وزارة الثقافة.
كذلك بادر من خلال موقعه في وزارة الثقافة على انشاء مسابقة “القصة القصيرة والشعر” لطلاب المدارس واصدر كتيباً باسماء الفائزين، وقد اصبحت هذه المسابقة سنوية تنظمها الوزارة.
نعيم تلحوق يعشق اللغة والحروف لكنه منحاز الى الفاصلة وهو ضد النقطة.
النقطة تنهي الكلام والنهايات غير موجودة في قاموسه.. الحياة حركة مستمرة والفاصلة محطة تترك الباب مفتوحاً لاجوبة لا متناهية.
انه شاعر الأسئلة الوجودية والانسانية ، يرفض الثبات واليقينيات والتناقضات تضجّ في داخله وتعكس فيه تحاربها في الخارج، يحاول صهرها والتكيف معها فهمها توحيد حركتها ومواءمتها لكنها عصية عليه تعذبه تثقل ذاكرته تفرض عليه أسئلة صعبة يحملها ويتنقل معها في مسيرة تراجيدية تفتش دائماً عن المعنى ولا تلقى أجوبة مقنعة ولا تقوى على إشباع الشهوات والرغبات فيبقى أسير الأسئلة والفواصل.
نعيم تلحوق شاعر الاسئلة وفوضى الاجابات المتناقضة لكنه كانسان ملتزم بقضايا الحرية والعدالة والحق القومي والدفاع عن المظلومين والمقهورين… فهو يدرك باحساسه لأنه صادق وعفوي وحريته لا قيود عليها.
في عالم اليوم، يبدأ الانسان روايته حيث تفرض عليه عُزلة الفرد اليتيم الذي يواجه التحديات ومصيره لوحده، من دون اتصال وعلاقات ومصالح وحنان وعصبية مع الآخر والمجتمع. لذلك يُرغَم على أنانية مدمرة للذات والجماعة. ونعيم يواجه هذا المصير بالشعر والحب والحضور.
وما زال يفتش شعراً ونثراً وحياة عن معنى الوجود الذاتي والمجتمعي من خلال اكتشاف اسرار الكون في الانسجام مع الذات والاخر.
.. قتل نعيم العشيرة لكن أحلامه الكبيرة تكاد أن تقتله.
( سركيس أبو زيد / لبنان )