كمال جنبلاط كتابا
إغراء السيرة
“في هذا الكتاب، لا نبحث عن كمال جنبلاط. بل ندخل إليه، كما يدخل مبضع في جرح قديم. أو كما يفتح باب لا يؤدي إلى الخارج. بل إلى طبقات أعمق من الداخل. ليس هذا سيرة، بل تنقيب في الرأس الذي حلم بكل شيء دفعة واحدة….
هنا نقرأه.. في تموجاته الروحية. في عناده الذي قاده إلى الرصاصات.. كمن يربي موته…
الرحلة لا تنتهي عند الإغتيال بل تبدأ منه..”
ليست كتابة السيرة واحدة. بل هي متنوعة الأساليب، بحسب الكاتب وإغرائه بها. هناك من السِّيَرِ الجافة ما لا يُعد ولا يحصى. ولكن أن تحظى، بسيرة مغرية، وبقلم شيق، فهنا التزاوج الفني، الذي يبدع كتابة سيرة مختلفة:
“عبد الحليم حمود. شادي منصور. كمال جنبلاط: بصمات الصوت والحبر والدم. زمكان. بيروت-2025: (160 ص.)”.

يفرد الكتاب صفحات مغرية للقراءة لسببين:
١- المادة الشيقة، التي تتحدث عن شخصية جاذبة للقراءة.
٢- الأسلوب الشيق في سرد المتابعات، والبحث عن الخبايا باللمع مرة، وبالوضوح مرة أخرى. وهذا ما يجعل النفس ترتاح لمواصلة فصول القراءة حتى السطر الأخير. وربما ما بعد السطر الأخير. فلا عجب: هناك ستُطرح الأسئلة: فن كتابة السيرة، مقرونا بالأسئلة المذيلة، إنما هو امتحان الكاتب، في ذروة الإنهمام بسردِ السيرة.
“هو كتاب آخر عن كمال جنبلاط، نعم، نعترف بذلك بلا مواربة، بعد كتب كثيرة صدرت عنه، وأخرى لم تكتب بعد… وإغتياله ما كان طي صفحة… مشروعه لم يكن خطرا… لقد إقترح وطنا عربيا لا ذيليا ولا تابعا. بل منبثقا من ذات لبنانية حرة… تنبع من سردية لم تكتب بعد.”
الكاتبان : عبد الحليم حمود وشادي منصور
بالرغم من كثرة الكتابات عن شخصية المعلم كمال جنبلاط ، لا تزال سيرته مغريّة للكتاب وللكتابة على حد سواء. فمعينها لا ينضب ، صوتا وحبرا ودما. ولا غرو في ذلك، لأن خُطب المعلِّم في جميع المناسبات، وعلى جميع المنابر، كما أحاديثه وحواراته، لا تزال سائلة مع الزمن. وهذا بحد ذاته، من عناصر التشويق للكتابة عن المعلِّم. أحفزت الكاتبين لمتابعتها، والإرتواء منها حتى تمثلها، على أعظم صورة، وحتى تخليدها في متحف القلب والعين.
“نشأ كمال في كنف والدته، نظيرة جنبلاط، التي عرفت كيف تدير بيتا وسياسة في آن واحد…
في عينطورة، حيث تلقى تعليمه، كان التعليم مساحة للتمرد الأول..”
كذلك فإن كتابات المعلم ومنشوراته وآثاره التي خلفها للأجيال، إنما هي الكنز الثمين الذي لا يعادله أي كنز، لما فيه من غنى وتنوع: شعرا وأدبا وحكمة وفلسفة وطبا وتربية وطبيعة وسياسة.
وحَّد قلمه بينها، وجعلها في قالب جميل وظريف وشيق، يغري حقا بالقراءة كما بالكتابة عنه والأخذ بها.
“ليندا جنبلاط، لم تكن فقط “اخت الزعيم” كانت ظلا طويلا لذاكرة الشوف، وإبنة لإمرأة حكمت الجبل بصمت أشد فاعلية من صخب البنادق…. قال لها يوما: “أنا لا أخاف من الكبار… بل من الصغار.”.
دفع المعلم باكرا ضريبة الدم. كان في ذروة العطاء، وفي الذروة من رسالته. كان إذاً على درب الشهداء العظام، الذين لم يمهلهم زمانهم حتى يكملوا مسيرتهم. غادروا وتركوها للأجيال، أن تحسن المتابعة.
” في بلد إعتاد أن يدفن القتلة مع الأدلة، نجا الشاهد. ونجت “البونتياك”، الشاهد الآخر…. تفاصيل تشبه إعترافات الذاهبين إلى الجحيم.”
يقف هذا الكتاب النفيس، على معنى السيرة. وعلى معنى الرسالة وعلى معنى الشهادة. يوحد بينها جميعا، في كتابة مشوقة. حتى ليجعل القارئ ينصرف للقراءة بكل حضوره الفكري والقلبي. يعبّ ولا يرتوي من سيرة مغرية ممتعة.
“رؤية كمال جنبلاط للدين كحقل للمعرفة لا للولاء. وللهوية كقيمة إنسانية تتجاوز الإنتماء الطائفي، ترمت أثرا مباشرا على مواقفه السياسة خلال سنوات الحرب.”
يتحدث هذا المؤلف الرائع عن المعلم كمال جنبلاط: طفلا يحبو على مدارج النبالة والشهامة والسياسة والأدب، في كنف بيته الأسروي. وبين أحضان بيئته العريقة حتى الينابيع. وفي مدرسته وفي جامعته. وبين أيدي الأصفياء والأنقياء من أساتذته ومربيه.
” في زمن كانت الهويات تصاغ على مقاسات الطائفة، وتثبت كأقنعة نهائية، خرج كمال جنبلاط ليقول إن الإنسان ليس دينا ولا طبقة ولا حزبا، بل مسارا داخليا نحو الكمال، نحو الوعي الشمولي.”
كذلك هو يتحدث عن مرحلة الشباب والسير على درب العطاء: مبرزا بين أقرانه من أهل الدراسة ومن أهل العلم. فلا يدع الكتاب لنا شاردة ولا واردة، إلا ويقدمها لنا. حتى ليبدو انه الأثر النفيس، للوقوف على سيرة معلم ما شابه معلميه، وإنما خلَّد أسماءهم لخلود اسمه على درب العطاء حتى النفس الأخير.
“ثمة ناحية أخرى بالغة الأهمية، لا تكتمل قراءة كمال جنبلاط من دونها. وهي قدرته على إدارة التناقضات المركبة التي تشك شخصيته، وتضعه… نائب في مجلس النواب، وزير في دولة، رئيس حزب عقائدي. زعيم طائفة. قائد وطني عابر للطوائف. صديق لكبار زعماء العالم… شخص بسيط أو شفاف أو صوفي…يرتفع السياسي لديه ألى مقام الفلسفة، دون أن يهمل فن البقاء.”
سمة من الشاعرية تصف الكتاب من ألفه إلى بائه. وهل تكون الكتابة عن المعلم كمال جنبلاط، إلا كذلك. فهو يطغى على الكتاب والباحثين، بأدبه وشاعريته وصوفيته وفكره السديد. حتى ليشعر الكاتب، أن عليه واجب المنافسة.
كمال جنبلاط بين الكاتبين عبد الحليم حمود وشادي منصور
يحاول المؤلفان كثيرا، أن يرقيا إلى درب كمال جبلاط. يريدان أن يلحقا بالمعلِّم كسائر مُريديه. هذا حتما من حقهم عليه. لأن المعلم، يُشعِر القاصي والداني، بأنّه قريب منه. فهذة هي رسالته، ولا محيد.
” كمال جنبلاط لا يؤسس نسقا نظريا مغلقا، بل يقترح طريقة في العيش، في التفكير، في الإصغاء إلى الجسد كما يصغى إلى العقل.”
كتاب كمال جنبلاط، لحمود ومنصور، هو من التحف الرائعة المحببة لفن القراءة ولفن الكتابة. وكذلك لفن الرسالة الجاذبة عن بعد وعن قرب بلا فروق!.
“إذا أردنا اليوم نقد الفكر الإشتراكي اللبناني، فإننا لا نستطيع تجاوزه دون المرور عبر جنبلاط. لا كقديس، بل كحالة إستثنائية، فلسفية النزعة.. أحلامها كانت دائما أكبر …
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين