ندى سكاف ديوانا:
نوستولوجيا الروح
” السيدة ندى سكاف إمرأة متعددة المواهب، متعددة البلاد، متعددة الألسن. فمن فن الشعر، إلى فن تصميم الحلى. ومن لبنان إلى فرنسا إلى إيطاليا. ومن العربية إلى الفرنسية إلى الإيطالية إلى الإنكليزية. من زحلة ألى بيروت إلى نابولي. من الحرب إلى السلام. ومن الخوف إلى الأمان. ومن الطفولة إلى الصبا إلى الشباب والنضج. من كل ذلك، تكونت شخصية ندى سكاف، الشاعرة والفنانة. وهي شخصية على غنى مكوناتها، تنطق عن بديهة سلسة غير معقدة. تخلو من الأصطناع والتكلف. ولذلك، فإن شعرها على صورة شخصيتها، غني، بديهي.
لعل هذا التطابق، بين شخصية الشاعرة، ميزة لدى ندى سكاف، لا نجدها عند العديد من الشعراء.” ( المترجم).
ما أعظم البوح عند الشعراء. يخرج صافيا من الأعماق. ثم يأخذ في التعالي طبقات طبقات، مثل بخور المجامر. يملأ الأرجاء. يدخل في المسام، قبل أن تمتلئ به الرئتان. قبل أن يداعب خيوط النور. قبل أن تمتلئ به العيون.
فرح وبكاء ودموع وإستمطار، كأن الدنيا كلها، صارت بين يدين ترتعشان. ترى الأنساغ فيهما، تذوب، تذوب، حتى تخرج الكلمة مغسولة بعسل الأقاح، بماء الزهر والورد، بالرحيق. من عمق البئر التي إختزنتها، لشهور. وربما لدهور طويلة. فمن يدري كم عمر الشذرة التي ننطقها الهنينة. نلتقطها فقط من ديوان الأدب، ونطلب من الماسحين والمدققين تقدير عمرها. فيجيئنا الجواب: بملايين السنين!. فيا للمفاجأة.
“ندى سكاف. زهرة الملح. (عن الفرنسية: ترجمة د. هيثم الأمين). دار النهضة- بيروت -2025″،
إنما هو بوح خالص، تفتئت فيه النفس على نفسها، بشيء من اللوعة والأسى والحزن لعمر طويل، وطويل جدا. تفتئت على جيل مضى، بل على أجيال، وهي تسعى إلى القمم، فإذا بها تصاب بالخذلان، بسبب ما يحيط بنا من أحزان. إنه فرح الروح لدى ندى سكاف، بما إمتلأت به، ساعة وجدت نفسها في دروب الصعاب، تجتازها دربا دربا. فإرتدت إلى الطبيعة تأنس بها. وتتعلل بما كانت تذوقه في مشاويرها الطويلة، بين الهضاب والوهدات وعلى الروابي، و في الوديان.
” ما أشبه الديوان الأول بالحب الأول. وذلك لأن المشاعر التي تنسج فيه الأبيات، تحتفظ بها الذاكرة، وتبقيها على بداهتها، ولأن القصائد فيه صادقة وطازجة، لا تدري إلى أين يأخذها قدرها…. ففي هذا الديوان حضور لشمس المشرق وضياء الطفولة، وظلال الحرب. وإختلاجات المرأة الناضجة، ما يجعل منه حقلا، تنبت فيه القصائد على البداهة، كما تنبت الزهور في لبنان.”

“زهرة الملح”، أعظم من مجموعة شعرية متكوكبة على نفسها. هي نستولوجيا الذات في تألقها وفي تطلعاتها إلى الأبعاد القصية. ترسم في الآفاق تاريخ الطفولة والأمومة. تاريخ أرض مشى عليها الرعاة. وقرأتها النعاج والحجال، بمناقيرها و بأفواهها. بل تاريخ بلاد، لا تزال تبحث عن حاضرها، فيما ترقب تساقط أوراقها. تقرأ عري الأشجار قبل فواتها، جذوعا، تخشى أن تصاب بعاصفة، تهددها.
“أيا بلد الجذوع من الرجال/ وتساقط أغصان الصنوبر/ قد بدأت حربك/ حيث إنتهى سلام طفولتي/ في فوهة فارغة/ في ظاهر كنيسة نيسان/ حيث بسقت شجرة تين/ بإرتفاع السحاب/ فضربت الطبيعة الجامحة/ عن العار/ صفحا في نهاية المطاف.”
قصائد قلقة، هي مجموعة الشاعرة ندى سكاف، “زهرة الملح”. تراها تعالج موضوعات يومية بروح متعالية. تريد أن تحمل كل شيء إلى يديها. تعيد صياغته من جديد. ثم تركنه، حيث يجلى للعيان، بصورة أعظم وأجمل. همها أن تعيد صياغة كل شيء قبل أن تتيبس به الجهات. تضفي عليه طابعا ناعما من روحها.
” مسيح قروي/ مريم محلية/ سقط رمل/ قوس جرس لما بعد الظهر/ يوضاس على غصنه/ برباس تواب/ وتحت شجر تفاح الطفولة الأخضر/ تبتسم لي/ مريم المجدلية في أزرار ذهب.”
تجربة الشاعرة ندى سكاف مع الشعر، إنما هي إعادة صياغة للروح وللبوح والنوح. تراها تحاكي بكل شفافية ما حولها. حتى لتكاد تشعر أنها جزء منها. تلامس أقدامها الدروب، فينبت لها الورد ويعاندها الصخر، وتفسح لها الوديان، وتنشق السماء عن غيمة وعن شمس باسمة.
“أنت صوت من لحم ودم/ عين رشا سوداء/ أيتها الروح الصغيرة الكبيرة/ سوف تجتازين الدنيا/ لماعة على الرمل/ ويبقى أثر شفتيك المتحرك الخفيف/ على خدي.”
روح شفافة راقية. تعب الطبيعة عبا، كأنها ينبوعة عطشى. تترامى حولها الأوراق عن غصونها، فرحا بها. وتغني القصبات لها. ترى المشرق كله، لدى البزوغ، دفعة واحدة في عينيها.
“حياة باهتة بلون حجاب المطر/… حياة بيضاء/ كالحق يقال/ صحراء بلا أثر لخطوة/ صفحة بلا كلمة مكتوبة/حياة زرقاء من بحور تعزل عن الحياة.”
شعر ندى سكاف، قطعة من سمائها. حالما تجلس إلى نفسها، تعانق النجوم وتساهر الأقمار. وتواعد الأشجار على غد. على موعد. على شروق جديد، وبسمة نقية، من هواء الجبل.
“لأولاد المشرق/ رموش تطبق/ على نظرات جمر/ وأحداق هندية/ وخواطر من ذهب الحقول/ وروح من حواريي فارس/ أولاد لبنان/ الغرب الأوسط والمشرق/ يحملون في داخلهم آمال الشعائر والأجيال/ لحراث الأروقة الخضراء/ والزراعة في الأرض الضيقة والوديان الشاسعة.”
“زهرة الملح”، بوح وفوح. صدر ممتلئ بما يشق النفس. بما تشقى به الروح لزمان طويل. إنها سيرة المشرق، على حبال العذاب لدهور ودهور. تحاول الشاعرة أن تفك عنه لغز حبر السحر، وحبال الإعتقال. وتطلقها جميعا مدى في البحار. حيثما الأفق والموج.
“قصتي حياة/ لأنها توقف الزمن/ فتسيل الأبيات/ وتكتسب إذ تحيا/ شعرا- مسرحا/ من شعائر الطفولة المكتومة/ من نظرة بيضاء تسبق كل طبيعة/ نظرة مليئة بكائن/ ما زال منسجما بحواسه/ ما زال في سلام بصحبة ولادته/ فيا أيها الشعر، وأنت عودة للأصول/ ألا فاقتل هذا المسخ وحركه/ فتعيدني سالمة/ إلي/ إلي.”
ترتاح الشاعرة ندى سكاف إلى غدها، حينما ترسمه كما هو. تريد أن تكون صادقة مع نفسها. فلا إفتئات على الذات. إذ الشعر عندها نوستولوجيا روحها المبرحة.
” بقينا أحياء في المدن السوداء الممزقة/ على الرغم من وقع الظل يترسخنا في أجساد النساء/ أمهاتنا من حملن نور الفجر/ ترفع طيات الأشرعة المخلية/ بإتجاه مرفأ النجاة الوحيد الممكن/ في “السلام عليك يا بحر”/ أعدني إلى أحشائك/ بعيدا عن أي إله ممكن/ عن أي يقين أعمى “.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين