تحرر اللوحة
يأخذ الفنان ريشته. يغمسها في حنجور الألوان، ثم يبدأ تشكيل الأرض، بهذة السعة. وبهذة السرعة. وسرعان ما يشتبك عليها النقاد. يصطفون حولها كفيالق من الكواسر. من طير البجع. يريدون نقدها. يريدون إختطافها. يريدون معرفة إنتمائها لأي لون. يريدون منها أن تعلن الولاء، لهذة الإيديولوجيا أو تلك. فلم يعد يطيقون الصبر حتى إنجازها، وجعلها في كادر. وتعليقها على حائط الزمن، تأخذ هناك مكانها، أمام عيون زوارها.
تخرج الريشة عن طاعة الجمهور: نقادا وسياسيين وباعة متجولين. وتجارا سريين. وسرابسة. تخرج اللوحة عن بيت الطاعة. تنفرد بذاتها، تريد التحليق في عالم الألوان. تريد أن تكون عصفورا غيمة، غمامة، يمامة، أو نسمة، أو أي روح، تحلق أو تطير، أو تسافر مع الريح. أو تعلو ثم تعلو، حتى تختبئ في الآفاق. حيث السماء والأرض والشمس، وغرف الغيوم. وغرف النور ونوافذ العتمة و الظلام.
الريشة في يد الفنان، تسكب السحر على اللوحة، لا الألوان وحدها. آنئذ يأخذ اللون مذاقه، ويذوب عاطفة. ويذوب حبا. ويذوب زهوا وإنتشاء ونشوة برية، مثل زهرة تسمو فوق رابية. أو مثل وردة، تعشق أن تحتف بها الأشواك.
لا تسألوا اللوحة كيف تلبس مصاغها على مهل. كيف تتنفس كما الصباح. كيف تغفو كما المساء. كيف تقيل، كسيدة أحلام. بنت قصرها، من أجنحة الحمام واليمام والفراشات. لا تسألوا اللوحة، كيف تداجي ظلها. كيف تمتص حزنها على مهل، حتى يخجل الحزن من نفسه، فيفارق وجهها ومبسمها في الصباح، ثم يأوي إليه في المساء. لا تسألوا اللوحة عن سرها. فهي لفافات من الأسرار مطوية، منذ غابر التاريخ. قطار من الذكريات. وزوارق نيلية مسرعة إلى إهراماتها. ومراكب فينيقية، تحطم الأمواج مجاذيفها. ومراكب إغريقية تبدع نارها، فوق صفحة اليم، تجوب بحار عينيها. ترسو هناك حيث ترسو في الميناء. ثم تغذ. تسافر إلى بر الأمان.
تبدأ اللوحة رحلتها كل يوم، كما سنونوة العينين، تروح وتجيئ. تخفق ريشتها. تضربها على نسمة ريح. ولا تلبث أن تشفق عليها. ما هذة الدمعة التي إنهملت تمازج بين ماء العين ولون المقلة. بين الأفق والموج. كيف تنبت الألوان على قماشة الكبد المرتق. على سرير البحر والوقت. على ورق الأيدي المخضلة. المعرشة بالطفولة. على خصلات الشعر تطير مع الأنسام. على جدائل البوح، تخرج من فرن القلب، وتجفف مثل رسائل الحمام الزاجل. ثم تطير عروسا على الهضبات.
اللوحة لا تغني الغناء. ولا تنشد الأناشيد. ولا تحتفل بنفسها مثل عيد. تلبس ثوب السحر، ثم تذهب عند الشروق إلى جلوتها. حيث الحناء والماء في الإناء. والريشة والقصبة والقامة الهيفاء والقصص والحكايا. حيث التغاريد. حيث الزغاريد. حيث صالة القادمين إليها من كل الجهات. يتلمسون بركة الماء المسحور بالألوان،، وبركة اللقاآت على حفافي العمر. يتبركون بها. ثم يمضون. ثم يغادرون. يختلفون وحدانا. و زرافات زرافات…
تحرر اللوحة من عشاقها، من طبيعة الروح التي جلتها. كلما دنوا منها، هربت إلى سحرها. إلى سرها. لا تطيق اللوحة أن يقيم الحزن خيامه حولها. تهوى أن تكون موئلا يفيء مثل جنائن السماء. وظلالا مرسلة على معتفيها. بلا شكاية. بلا حكاية. بلا رواية. ثمة شلال من الضوء على وجهها. يملأ جميع عيون الزائرين حتى يفيض عنها.
اللوحة فيض يدين. سحر عينين. حكاية عمر يبدأ من لا مكان، ويذهب إلى لا مكان. مأوى غزلان ورهبان ودراويش. بل قيل ظبية على مرج من الخيالات والأوهام والهيام. تنام على حرير من الألوان. تموج للرائين من بعيد، وتدعوهم إلى ندوة الشمس.
تباركت تلك اليدان، حين غمست نقطة من قلبها على أول اللوحة. حين غمست قطرة من جرحها على آخر الحرف. ثم عبرت كما قنطرة. تنادي على تحرر اللوحة. تباركت. تباركت. حين وقعت على مبسمها بصمتها:
بريشة خيرات الزين.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين