من كتاب : “رسائلُ إلى بحّارٍ ورسائلُ أخرى” للكاتبة و الشاعرة سليمى السرايري
(رِسَالَة إِلَى الشَّاعِرِ سُوف عبيد)
ا……صديقي……..ا
لَقَدْ أَخَذَتْنَا الحَيَاةُ وَتَقَلُّبَاتهَا بِمَا فِيهَا مِنْ عَنَاصِرَ خَلَقَهَا اَللَّهُ فَكَانَ لَهَا اَلْأَثَرُ اَلْأَكْبَرُ عَلَى حَيَاتِنَا اَلْبَسِيطَةِ مِثْلَ اَلنَّارِ واَلسَّمَاءِ واَلْقَمَرِ واَلشَّمْسِ واَلْمَاءِ واَلرِّيحِ واَلْمَوْتِ وَالْعِشْقِ، فَوَظَّفَتْ اَلْأَسَاطِيرُ هَذِهِ اَلْمُفْرَدَاتِ وَمَثِيلَاتِهَا، فَكَانَتْ لَهَا دَلَالَاتُهَا وَرُمُوزُهَا اَلْبَيِّنَةُ وَالْخَفِيَّةُ لِتُبْرِزَ أُسْطُورَةَ اَلْمَاءِ اَلَّتِي يُوَظِّفُهَا جُلُّ اَلشُّعَرَاءِ فِي هَمْسِهِمْ لِلْقَلَمِ. فَكَأَنَّهُمْ عَلَى مَوْعِدٍ قَائِمٍ مَعَ (آلِهَةِ المَاءِ) اَلَّتِي تَلُوذُ بِأَفْنَانِ اَلْهَوَى أَيْنَمَا تَتّجِهُ، فَتَرَاهَا قَابِعَةً فِي جَوْفِ كُفُوفِهِمْ تَهْمِسُ:
أَنَا هُنَا خُلِقْتُ مِنْ مَاءِ وَصَدَفٍ ” مَعْرُوكَةً ” بِصَلْصَالِ اَلْغُيُومِ.
وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعُودُ مِنْ آخِرٍ اَلْأُسْطُورَةِ لِتَلْتَقِينَا عَلَى عَتَبَاتِ اَلشَّوْقِ، تُثِيرُ اَلْعَوَاصِفَ وَالشُّمُــوسَ وَالْأَلْوَانَ اَلْمُتَبَقِّيَةَ عِنْدَ اَلسَّاحِلِ اَلْقَدِيمِ…
اَلْوَقْتُ هُنَاكَ يَرْقُصُ عَلَى أَصَابِعِ اَلْمَوْجِ اَلَّتِي تَحْتَضِنُ اَلْحَنِينَ وَتَقُولُ: لَا تَتَأَخَّرْ حَبِيبِي رُبَّمَا يَغْمُرُنِي اَلطُّوفَانُ…
وَنَحْنُ يَا صَدِيقِي، فِي دَهْشَةٍ مِنْ أَمْرِنَا نَتَسَاءَلُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مَاذَا يَلْزَمُنَا اَلْآنَ؟ أَمَلٌ؟ اِسْتِقْرَارٌ؟ فَرَحٌ؟ لَعَلَّنَا نَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءِ هَذِهِ اَلْحَاجَاتِ اَلْمُلِحَّةِ، حِينَ تَضِجُّ تِلْكَ اَلْآلِهَةُ بِالْوَجَعِ.
إِذَنْ، هِيَ اَلْحُرِّيَّةُ اَلَّتِي يَصْبُو إلَيْهَا كُلُّ كَاتِبٍ، وَنَفْهَمُ هَذَا مِنْ إِشَارَتِهِ إِلَى البَحْرِ، وَاَلشَّجَرِ وَالْعَصَافِيرِ، إِلَى طَرِيقٍ مُمْتَدَّةٍ جَمَالًا، نُقِيمُ فَوْقَهَا أَعْرَاسًا لِلْغَيْمَاتِ الشَّارِدَةِ.
هَلْ هَذَا كُلُّ مَا يَصْبُو إِلَيْهِ اَلشَّاعِرُ؟ إِنَّهُ اَلْوَجْهُ اَلسَّاكِنُ فِي ذَاتِهِ، وَجْهٌ يَنْتَظِرُهُ فِي تَمَوُّجَاتِ اَلضَّوْءِ وَفِي عُزْلَةِ اَلْأَشْيَاءِ.
هَلْ هُوَ اَلْحُلْمُ؟ أَمْ اَلانْتِظَارُ؟ أُمْ تَعْوِيذَةُ اَلْعِشْقِ اَلْمُكَبَّلِ دَائِمًا بِالْخَوْفِ؟
اَلْخَوْفُ اَلسَّاكِنُ فِي قُلُوبٍ عَاشِقَةٍ، خَوْفُ اَلْهَجْرِ وَالرَّحِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ عَادَةً مَا يَعُودُ اَلْكَاتِبُ، مِنْ كُلِّ هَذِهِ اَلتَّخَوُّفَاتِ وَهَذِهِ اَلْحَيْرَةِ بِأَمَلٍ يُدَاعِبُ رُوحَهُ اَلْمُتَعَطِّشَةَ إِلَى الجَمَالِ يَزْرَعُهُ اَلطَّرَفُ اَلْآخَرُ عَلَى شَرَاشِفِ اَلْقَصِيدَةِ.
وَأَنَا اَلْمَحُكَ فِي أَوْجِ اَلْأُسْطُورَةِ، تَفُكُّ ضَفَائِرَ “الجازية” اَلْفَاتِنَةِ حِينَ وَصَلَتْ تَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهَا اَلنَّاعِسَتَيْنِ تِلْكَ اَلْبِحَارَ اَلَّتِي لَمْ تَرَهَا، كُنْتَ تُدْرِكُ حِينَهَا، أَنَّكَ نَسِيتَ اَلرَّشَادَ مُجْتَازًا اَلْأَهْوَالَ تَهَبُ أَحْلَامَكَ لِسَوَادِ شَعْرِهَـا اَلْغَجَـرِيِّ، وَتَسْكُنُ مِائَةَ عَامٍ فِي اَلْعِشْقِ اَلْمُكَبَّلِ بِالضَّفِيرَةِ اَلطَّوِيلَـةِ كَلَيْلِ اَلصَّحْرَاءِ وَأَنْتَ اَلَّذِي لَفَّتْكَ مَوَاوِيلُ اَلْقَوَافِلِ اَلرَّاحِلَةِ نَحْوَ أَرَاضِي اَلْمَاءِ تَقِيسُ تِلْكَ اَلْمَسَافَاتِ وَتَنْتَظِرُ هُنَاكَ مُرُورَ الرَّكْبِ، وَالْجَازِيَةُ اَلْحَسْنَاءُ مَا زَالَتْ تَجْمَعُ نَظَرَاتِكَ اَلْوَلْهَى وَتَحْتَفِظُ بِقَصَائِدِكَ المُشْتَعِلَةِ وَجْدًا وَهُيَامًا بَيْنَ طَيَّاتِ ثَوْبِهَا اَلْمُطَرَّزِ بِالْعَقِيقِ وَالْمَرْجَانِ وَتَعَلِّقُ فِي أَقْرَاطِهَا اَلْفِضِّيَّةِ هَمْسَكَ اَلنَّاعِمَ:
هِيَ الحُسنُ في سِحرِها العَجَبُ
فَلَوْ بَسَمَتْ يُجْرَحُ العـنبُ
ولو حَادثـتْها الفيافي بصوتٍ
جَرى سَلسَبِيلٌ كَما الخببُ
إذا ما مَشَتْ نَوّرَ الغُصْنُ شَوْقًا
وأُحْرِقَ دَرْبِي هِيَ اللَّـهَبُ
يَا لَهُ مِنْ هَمْسٍ سَكَنَهَا وَأَسْكَنَهَا فِرَادِيسَ اَلْعُشَّاقِ!!
وَقَدْ كَسَاهَا اَلْخَجَلُ فَأَسْبَلَتْ جَفْنَيْهَا حَيَاءً تُزِيحُ عَنْ جَبِينِهَا قِطْعَةً حَرِيرِيَّةً مِنْ شَعْرِهَا اَلْأُسْطُورِيِّ وَقَدْ فَاحَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ اَلْأَعْشَابِ اَلْجَبَلِيَّةِ وَالزُّيُوتِ اَلنَّادِرَةِ، تِلْكَ اَلْخَلِيطَةُ اَلْعَجِيبَةُ اَلَّتِي قَالُوا إِّنَّهَا أَطَالَتْ جَدَائِلَهَا فَعَانَقَتْ لَيْلَ اَلصَّحْرَاءِ وَتَجَمَّلَتْ بِهِ اَلْيَافِعَاتُ فِي أَحْلَامِهِنَّ اَلْوَرْدِيَّةِ . . .
اِنْهَضْ فَقْد دَقَّتْ اَلشُّمُوسُ عُيُونَ اَلرُّعَاةِ وَاشْرَأَبَّتْ نَحْوَ قَطِيعِ اَلْأَغْنَامِ تَزِيدُ مِنْ لَمَعَانِ وَبَرِ اَلْمَاعِزِ اَلْغَزَالِيِّ النَّاعِمِ…
يَا صَدِيقِي، قَدْ رَحَلَتْ اَلْجَازِيَةُ اَلْفَاتِنَةُ وَأَسْدَلَ اَلْفَرَاغُ جَنَاحَيْهِ اَلثَّقِيلَيْنِ عَلَى تِلْكَ المَرَاعِي، فَحَزِنَتْ الأَعْشَابُ وَالأَطْوَادُ وَظَلَّ اَلنَّخِيلُ وَحِيدًا يَنْتَحِـبُ فِي صَمْتٍ وَخُشُوعٍ.
صَدِيقَتُكَ.
الكاتبة التونسية سليمى السرايري
الشاعرة سليمى السرايري والشاعر سُوف عبيد
شكرا أستاذ يوسف رقة على الاهتمام والنشر
دمتم بكل خير ومزيدا من التألّق والنجاح على الصعيد الاعلامي والشخصي