الحداثة و الترسل
“توثق هذة الرسائل لمرحلة أثيرة من حياة شاعرين: سركون بولص ووديع سعادة. كابدا الغربة والعذاب. وكتبا القصائد وكأنها خط الدفاع الأخير عن الشعر واللغة والحياة والأحلام والصداقة. كما توثق لمرحلة من مراحل حركة الشعر العربي في زمن المنفى والإقتلاع.
هذا الكتاب هو ضفة متصلة ومنفصلة في فضاء العراق ولبنان وأميركا وأوروبا وأستراليا. وها هي الرسائل تعيدنا من جديد، إلى خفق الأجنحة التي فقدناها. إلى زمن أدب الترسل حيث كانت الكلمة فيه تقتبس في الوجدان والورق والكتاب. وتضيئ وتتوهج أكثر بكثير من الضوء الناحل على شاشة الأثير ويباس الأزمنة.” (سليمان بختي- المقدمة)
مع إطلالة القرن العشرين ووصول الحداثة إلى حديقة الأدب عند العرب، صار على الشعراء والأدباء، أن يستطلعوا هذة الحديقة الخلفية التي وجدوا في بنيانها، حاجتهم للعودة عن الصحراء. كانت الدعوة إليها ترج جدران القدامة. وكان الشعراء منهم أول من بادروا، لتفيوئها. وفي طليعتهم، شعراء العراق ولبنان، وتاليا، شعراء مصر وسوريا وفلسطين.
” يريد من القصيدة أن تردم هوة التاريخ بينه وبين العالم. أن يشارك بها فيما أسماه” معجزة العالم”. يكتب بإتجاهات مختلفة وكأن روحا متشظية تنشد المستحيل عن حالة الشعر. الحالة الوحيدة الحقيقية.”
محاولات عديدة جرت، لإستنهاض الشعراء حتى يلحقوا بعصر الحداثة. وكانت الرسائل بينهم وسيلتهم الوحيدة، بعد أن فرقتهم الحروب العالمية التي أولدتها. وشتتهم الإستعمار.
” في كثير من الأحيان وحين أكون يائسا، مجرد محاورة من هذا النوع تعيدني إلى حالتي السعيدة. وأضحك عاليا في الشوارع دون أن أستطيع السيطرة على نفسي.”
“رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة. إعداد وتقديم سليمان بختي. دار نلسن- بيروت،2024”.
يجمع هذا الكتاب بين دفتيه، نصوص تلك الرسائل التي هبت بين هذين الشاعرين، سركون بولص الآتي من العراق، ووديع سعادة، إبن بلدة شبطين في لبنان.
” عزيزي وديع. لقد تكلمت كثيرا. اليوم هو السبت. عطلة. ولدي موعد مع إمرأة أميركية. ولكنني أعتقد إنني متأخر الآن لأنني قضيت هذة الساعة الأخيرة أكتب إليك.”
نقع في هذة الرسائل على الدعوات الحثيثة للتمسك بالحداثة الخارجة عن مألوف الشعر العربي. بحيث نرى سركون بولص، يضرب بقوسه، جدران القلعة القديمة. أما وديع سعادة، فهو ينشغل في بناء العربية والأدب العربي، على أصول جديدة.
“ليس هناك تفسير لأي شيء إستحق قصيدتك. وبذلك تهشم زجاجة التاريخ التي تضعها قوى عمياء بينك وبين العالم.”
كلا الشاعرين، عاشا محنة الهجرة والتمزق. وكلاهما ذاقا الهم الفني للقصيدة الجديدة المستولدة. ولذلك يجد القارئ نفسه، محاطا بكثير من الآراء والأفكار التائهة، في أثير عصر مضطرب بالمدينة الغربية. وبشعراء من الغرب، يهيمون على وجوههم، في زحمة الحروب، التي تفتك بالعصر.
” اليوم الأحد. وقد قضيت طيلة اليوم أكتب. سأذهب بعد ساعة إلى “الساحل الشمالي”، حيث سرك العالم الذي لا يكف. برودواي. والبلدة الصينية. المليئة بالهبيين. بالنساء وتجار المخدرات والموت. وباليوغا والراقصين والشعراء ومحلات العري الكامل. لأغتسل في وسط النهر البشري وأشارك في معجزة العالم”.
هل نقول إن فن الرسائل بين سركون بولص ووديع سعادة، هي من مأزق عصري كان يطبق عليهما. ربما كان ذلك، خصوصا أن الشاعرين يريدان الإنفكاك من الأغلال القديمة، ليلتحقا بالحرية الشعرية، بعيدا عن أسوار شعر الشرق العربي.
” حتى الأيدي التي تصافحني، تترك، وبغموض، آثار قصيدة في يدي. كاف أن أجلس في مقهى. وكاف أن أنظر إلى السماء المطعونة بناطحات السحاب. أو أيضا أن أرى فتاة تكلمني من داخل قلعة أفكارها. وبعد ذلك تعطيني جسدها الجاهل.”
سركون بولص كان أكثر إنغماسا في التجربة،كما نرى في رسائله إلى وديع سعادة، بسبب تنقله في بلدان غربية كثيرة. ولهذا نرى في آرائه التي يسوقها في رسائله إلى وديع سعادة، ما يشف عن روح متوثبة للحاق بالإنسان الجديد الذي لم يولد بعد. كأنه كان يحضر لعصر جديد لم يأت حتى الآن.
“أنا أتكلم عن الشاعر أو الإنسان في حالة الشعر. الحالة الوحيدة الحقيقية.”
خاب سركون بولص ومعه وديع سعادة في التعويل على الفلسفة الغربية. ذلك أنها لم يكن الإبداع الشعري، مما يؤرقها، في سعيها لوضع اليد على المال. فظلت الحداثة غارقة في بحر الأفراد المعذبين، من الشرق والغرب. ولم يجدوا، من التغيير، إلا ما يدعوا للأستحواذ على الأرض.
” وصلت إلى الأحد./ في الأصل كنت راعيا يفترس أرخبيلا ممزقا/ من الأرواح./ في الماضي الذي لا يمكن صيده/ أخرج إليه فيهرب:/ غزالة تأكل الملح على بابي.”
ظل الإنسان أينما كان، يعيش برهة مأساته. يعبر عنها ويخلدها في رسائله وكتاباته وأشعاره. وظلت الآلة الغربية تفتك به.
“العلن يكمن في السر. وما يكتبه الشاعر، وما كتبه سركون، من تفاصيل حياة يومية، إنما كي يقول السر في العلن…. لكن، مهما أبحر الشاعر في باخرة أحشائه، مهما إبتعد، يقول سركون بولص: سيصل إلى قلبه في النهاية/ حيث يتدلى الجرح من النوافذ/ حيث الجرح يحترم الرصاصة.”
فحيث الحداثة الطعنة الأخيرة لأمل الإنسان، المكتمل الجروح. يأتي الصوت في الرسائل، التعبير الأخير عن الإختناق.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين