زاهي وهبي
دع الورق يفكر
“لإمرأة تغفو في أخيلتي/ وتصحو كالحدائق/ لإمرأة تنام على أشواقها/ وأنفاسها وسائد/ لإمرأة تقرأ هذي الكلمات تصير بين يديها قصائد.”
وجهه للصبح. للمساء. هو الشاعر، حين يعود المرأ إلى نفسه، ويخلو به المكان. تتململ القصيدة تحت جلده، دبيب القهوة تحت تراب بدنه. تريد أن تخضل بين يديه. يمضغ الوقت مثلما تتحشرج الحروف في حلقه. يظل الشاعر، على عوده، ينشر سماءه على كتفيه، وينتظر، حتى يفكر الورق.
” في القلب متسع للحب/ في الرئتين هوى لا هواء./ للأصدقاء:/ مهلا/ لا وقت للبكاء./ فكرة عابرة، هذة هي الحياة.”
لا شيء أعذب من البوح لنفسه، في سويعات الحب، وفي سويعات الغضب. وهل الشعر إلا رجلا رمى قلبه. رمى عينيه. رمى دمعة تسقي الورق.
” أتكئ على وردة/ على شرفة عطر/ على نهارات لا تشيخ…/ من سلالة الماء/ من ندى الصباحات العذبة/ من ملوحة التعب/ وعبق البساتين/ إبن القرية المعلقة على خيط السماء/ والبلاد المنذورة للعذاب.”
في حالة الشاعر، من الصعب أن تحصي أنسام طالعه. ففي كل وقت هو في شان. يأخذ مركزه من بياض الورق، ثم ينحني ليعد الحروف التي تساقط من قلبه، على أصابع يديه. يعقل الحروف جملة جملة، ثم ينفث عليها من روحه، فتكون القصيدة التي ينتظر. وتكون الولادات من ضلعه. ثم يراها تنشأ ظلالا ظلالا له. فيصرخ عندها: هذا هو الشعر. هذا أنا.
“زاهي وهبي. ليل يديها. الرافدين. بغداد-2022″،
ضافي الشعر في وجه ممتلئ به. يصدر عن ينبوع لا يجف، لأنه ثنائي الحب. مزدوج المعنى، له في كل بيت زوجين إثنين: الأنثى/ الأرض. والرجل/ الوطن. وأما الباقي فهو من العشب الذي يغطي البدن الشاسع، بطول عمود إلى السماء. بنحول عود، إستلقى ذات مساء، وإستيقظ ذات صباح على أرض البلاد.
” كلما قلت أحبك/ ذاب صوتي في الهتاف/ صار صرخة جائع/ ورغيفا صعب المنال/ كلما ضاق وطني علي/ إرتميت على صدرك/ عساها عن صدري/ تزاح الجبال.”
في شعر زاهي وهبي، ترى الناي والقصبة، لأنه في حنين دائم. في حنين مجروح، مبحوح. شاعر معنى. يلكز فرسه فوق هضبات البلاد، فتسرح في الآماد. في الفيافي. في السهوب. ثم تجفل عند أكمة، تستيقظ الظلال. تحصي أنفاس الطيور. توزع من ريشها عليها. ترى الجمل تسعى إلى بعضها. تنهض قصيدة قصيدة، أسرع من بيوض القبرات. تفقس الصغار في حقول القمح، وفي مروج البيادر. وتحت أعشاب الخريف. رمت عليها الأنسام من روحها، فكان أن فكر الورق.
“ما أمكر طيفك/ يساهرني حتى مطلع الأرق/ ثم يتركني وحيدا لنعس النهار.”
زاهي وهبي، شاعر الورق الأبيض. كلما أخذ ورقة بيضاء، نهضت بين يديه عروسا من الشعر والزعتر. ينظر في الأوراق التي تسارعت إلى يديه. ينظر إلى الأوراق التي غفت تحت عينيه، فإذا هي تستيقظ مجموعة شعرية. فكر الورق الأبيض كثيرا بزاهي وهبي، وهو غارق في قلبه. سمعه يقول له: هذة هديتك مني،فالأبيض يليق بك، مجموعات مجموعات!.
” أطلق آهتي قمرا/ أضيء ليلك بالقبلات/ أخالني أسيل العتمة بلهيب العناق/ ما كان رحيقا حريقا يصير/ تشب النيران في المجرة/ تترمد الكواكب الدهرية/ بين نهديك تتدفق أنهار الجمر والفضة،/ ولا يعود العالم أبدا/ لا يعود.”
يأتي زاهي وهبي الشعر من أبوابه. الحنين قياده إليه، طفلا ويافعا وشابا وفارسا وجريحا يشكو. وكليما يبوح ومكلوما ينوح، حين تطوي الريح منه، برديه. وتجعله يطير مثل غمامة أضاءت دموعها للسنابل، حتى لا تساقط سدى.
” مثل لقاح مضاد لضجر العمر/ يسري صوتك في أوردتي/ مثل إرتجافة المرة الأولى/ يكهرب نسغ العظام/ ومن المسام يفيض رحيق البدايات.”
الشاعر والاعلامي زاهي وهبي
قلما ترى زاهي وهبي يزدهي بالشعر، كعادة الشعراء، لأنه مكلوما به. قتيله هو، بين عينين. بين شفتين. بين يدين. تراه صليبا هو. معمما. معتما بالشوك، وبين يديه لواء، ووفضة مملوءة بالسهام. وأمامه المدى الأخضر، مضرجا. لا يعرف أن يعد الجروح. ولا كيف يسقي الينابيع بالأحمر. يخشى أن تبوح بسره. هو العاشق. هو الأزل، الشاعر الذي في نفسه، تماما، كما يفكر الورق الأبيض به.
” كأنه شجرة/ في رأسه الرياح/ في قلبه موسيقى العصافير/ تحت ظله عشاق/ وكائنات أليفة ترعى عشب يديه/ يهب فيء عينيه للعابرين وذراعيه لفقراء الحب والعناق.”
زاهي وهبي، خريف الشعر، ينهض يستسقي له من عينيه الغمام والينابيع والندى، عند كل فجر. يريد له أن يظل مشبوبا بالمرأة وبالأرض التي أفرعته. بالأرض التي أعرسته. تلك التي شهدت على عرسه، في كتاب الشاشة، صغرى وكبرى، فلا فرق!.
” ضحكتك/ صبيحة مشمسة بعد ليلة ماطرة/ أغنية حب في مذياع قديم/ طمأنينة أم لحظة إحتضان مولودها لأول مرة/ دهشة طفل بلعبته الجديدة/ فرح التلامذة برنين جرس الفرصة.”
لا يريد للشعر أن يخرف، غب كل خريف يمر عليه. يريد له الشباب والتألق. يريد له الزهو. فالشاعر فيه، يستيقظ الماضي. ويستحضر القادم ولا يتخلف عن سوق القوافي إلى بابه. حيث الشاعر الملك، يجلس على كرسي الشعر الأزلي، ولا يرضى إلا بتاجه، ذهبا وأشواكا وأزهارا وثمارا على ضفاف يومه، بين الصباح والمساء. يعلق على عوده كساء الليل، ويضرم نفسه شمعة له.
” رأيت نبضك/ بلى رأيته/ إبتسامة مزهرة على وجهك/ وردة في أصص يديك/ شوقا مضمرا في اللفتات/ وأغنية صامتة/ في عينيك الحجازيتين.”
رهبوت الشعر ورحموته، بين أصابعه العشر. يمضي زاهي وهبي في ديوانه: “ليل يديها”، يتداول سمعه بها. هي البلاد التي أوسعته نخلة يهزها. هي البلاد التي أوسعته رهبة ورحمة. حربا وحبا. وعمرا ظل دهره يسعى وراءها. دون أن يحظى منها ما يشتهي.
“إذا/ لا تفقد الأمل/ لا تفقد الروح العنيدة/ وخذ ما شئت من ريح القصيدة/ إرفع شراعك عاليا/ ناد النوارس من فضائها/ والمتيمات من شرفات الإنتظار.”
هو الحظ من الشعر: فرحة به أم خيبة منه، يقطع زاهي وهبي وقته، ويظل على رجائه، ما دامت أمه البلاد، وما دام أبوه الوطن!
” كلما قلت: تونس/ إبتسم الأبيض المتوسط/ رقصت غزالة في شفة الماء./ كلما كتبت: تونس/ إخضرت كلمتي/ حطت عليها العصافير/ صارت ورقتي/ بستانا في الفضاء.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين
الشغر جميل والكتابه عنه اجمل. تهاني لك