“رسائلُ إلى بحّار ورسائل أخرى”
شهادة الأستاذ محمد منير الزعبي من سورية
سليمى السرايري ومحابر النور
☆ أن تعانق طقس حروفها وأعمالها، أن تركن في زاوية معانيها، أن تجلس برفقتها فقط، أن تطلّ من نافذة بلاغتها وإبداعها، أن تراقب ما يحدث في بيان محيطها، تلك هي سليمى السرايري بلحظة الآن.
للخصب في ألوانها القمح، تتمايل السنابل، تلمس السماء بأعمدة إحساسها العالي فينزل مطر المشاعر سخيا.
أعمالها شادية بجميل لحنها وعبق معانيها، تستدرج الألوان من أعشاشها لتصوغ ذاكرة الدّنان الحرف خمرتها الشّفيفة، لا تفيق من ارتعاشاته، وبين اللفظ والمعنى التجأت لنخلة الوجع المقيم، وغابت في شجن الكمان. تفتش عن قبس وضياء، ترسم بألوان من نور ما تبقى من ولائم الشّمس تهيّئ الحبّ للعابرين سقف العيش المشترك وترشّ القلب بأريج السّحر.
في زاوية بيتنا، شجرة الزيتون علّقت عليها حرفها فأضاءت صوتا في حقول محبتها ما تزال تخبز من معانيه رغيفا، حرفٌ له مجسّات شديدة الحساسيّة لضوء المعنى الموارب، عندما يفتح عينه الثالثة يرفع ريشته سراجا في موشور المعنى ويطلق أسراب النور والظل من قبّعته فتمتلئ صوامع (رئة ثالثة) بخوارزميات خصبه ليُصاغَ في كلمة مزروعة في شرفات البيان قد زرعنا في ظلاله روحا.
يا ليتنا نتقن القراءة.
وبعيدا عن السرديّة التي اعتادها المتلقّي في أغلب النّصوص النثرية، أصرت الشّاعرة على حالة كافكاويّة منكسرة توحي بالألم عبر صور تتالت في نصها الشعري (ذات وجع) لتترك مساحات ملفتة من البياض مشحونة بالأسئلة: “
وَالدَتِي، إِخْوَتِي، المَكْتَبَاتُ اَلَّتِي كُنْتُ أَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا، المُلْتَقَيَاتُ الأَدَبيَّةُ، وَمَهْرَجَانَاتُ الشِّعْرِ، وَمَعَارِضُ الفُنُونِ التَّشْكِيليَّةِ، اَلَّتِي كُنْتُ أَوَاكِبُهَا بِحُضُورِي المُلْفِتِ، كَانَتْ تَحُجُّ إليَّ أَنْظَارُ كُلِّ الحَاضِرينَ، كَيْفَ سَتَسْتَوْعِبُ رَحِيلِي الآنَ؟
” يَقُولُ الأَصْدِقَاءُ : “
رَحَلَتْ دُونَ أَنْ تُحَقِّقَ أَحْلَامَهَا الكَثِيرَةَ. وَبَعْضُ الأُدَبَاءِ وَالرَّسَّامِينَ يَقُولُونَ: مَخْطُوطَاتُهَا الأَدَبِيَّةُ مَنْ سَيَهْتَمُّ بِهَا؟ لَوْحَاتُهَا التَّشْكِيلِيَّةُ اَلَّتِي تَمْلَأُ البَيْتَ وَاَلْمَرْسَمَ، وَفَوْضَى أَدَوَاتِ الرَّسْمِ مِنْ سَيُنَسِّقُهَا؟ وَمَاذَا سَيَفْعَلُونَ بِهَا؟“
ورغم ما جاءت به صورها بالمترف اللغوي في رصد الوجع الذي ذيلت جبهة رأسه بنواقيس ملك الموت الذي ما فتئ يقرع رأسها بقي باب الأمل خلفا لا ليهرب، إنما لينتصر:
“جَذَبَتْنِي أَصَابِعُ حَرِيرِيَّةٌ، وَقَالَتْ لِي :
تَعاليْ، حَانَ الوَقْتُ. هَذَا دَرْبُكِ مُخَضَّبٌ بِاَلْوَرْدِ، وهَذِهِ أَشْجَارُ اللَّوْزِ تَمْلَأُ مَكَانَكِ الجَدِيدَ. لَا تَلْتَفِتي، اتَّسَعَتْ مَسَافَاتُ الشَّرِّ خَلْفَكِ “
كأنّها تقول من خلال لغة عالية تحكم البناء النّثري بمؤثراتها الدّاخلية:
لن تغتال هديلي أيها الوجع فأنا من سيترجم عواءك بنصّ يوهّج صورا مشحونة بالأمل، بنصّ لايركن لظرفيّة الواقع
كان الأمل معجزتها للعبور لأنها أتقنت الحلم أولا.
ثم جاء النّثر معجزة المعجزة التي نمت داخليا للبحث عن ولادة أخرى حقّقت صوتها الخاصّ وطاقتها المختلفة.
☆ الجماليّة في بناء النصّ النّثري تعتبر من أهم عناصره، وهي تتعلق بكيفية تنظيم وترتيب الكلمات والجمل والفقرات والفصول بطريقة جميلة ومتناسقة.
الكاتبة والشاعرة سليمى السرايري
…
هدفت الأستاذة “سليمى السرايري” من خلال هذه الجمالية إيصال فكرتها ورسالتها بشكل مؤثر وجذاب للقارئ وقد اعتمدت من أجل ذلك استخدام أساليب وتقنيات أدبيّة كالتّشبيه والتّصوير البصري والرمزيّة وغيرها كما في نصّها الحامل هذا العنوان:
صَديقَتِي الحَنُونُ/ نعَيمَة بِاَلْنُّوري،
لَمْ تَكُنْ اَلْصَدَفَةُ حَزِينَةً فِي ذَلِكَ المَسَاءِ، وَهِيَ تَفْتَحُ ذِرَاعَيْهَا لِلشَّمْسِ وَلِلرِّيحِ وَاَلْجِنّيَّةُ اَلْفاتِنَةُ، تُبَلِّلُ أَطْرَافَ ثَوْبِهَا وَهِيَ تَرْقُصُ حَافِيَةً عَلَى الشَّاطِئِ غَيْرَ عَابِئَةٍ بِنَظَرَاتِ الصَّيَّادِينَ وَبَعْضِ أَعْمِدَةٍ ظَلَّتْ ثَابِتَةً حَتَّى عَوْدَةِ اَلْقُبْطانِ مِنْ غِيَابِهِ المُفَاجِئِ.
(رسالة إلى أبي)
مَا زِلْتُ أَتَسَمَّعُ صَوْتَكَ، وَأَقْرَعُ أَجْرَاسَ اَلْمَاضِي، ذَلِكَ اَلْمَاضِي الطَّوِيلِ بِعَدَدِ اَلسَّنَوَاتِ اَلَّتِي فَرَّقَتْنَا، أَنْتَ ذَهَبَتَ إِلَى مَدِينَتِكَ اَلْبَيْضَاءِ، وَأَنَا بَقِيتُ أَسْقِي عُمُرِي مَاءَ اَلصَّبْرِ حَتَّى لَا يَتَشَقَّقَ عَطَشًا، بَيْنَمَا اَلسُّؤَالُ يَكْبُرُ فِي عَتَمَتِي، مَنْ مِنَّا اَلَّذِي رَحَلَ يَا حَبِيبِي؟
مَنْ مِنَّا اَلَّذِي مَضَى إِلَى آخِرِهِ وَجَرَّ وَرَاءَهُ ضِحْكَتِي وَنَضَارَتِي وَأَخَذَ مَا تَنَاثَرَ مِنْ جُنُونِي اَلْجَمِيلِ؟؟
مَنِ اَلَّذِي صَمَتَ اَلْآنَ لِتُصْبِحَ اَلْأَمْكِنَةُ أَكْثَرَ ضِيقًا وَعَتَمَةً؟
نصّ فيه الكثير من الإيحاءات والدلالات التي تترك اثرا عميقا وشما محفورا في الذّاكرة استخدمت شاعرتنا البلوريّة فيه اللّغة والصّور والرّمز لخلق صورا حيّة حيث امتلك النصّ نمطا لغويا تجاوز اللّغة العاديّة ذلك لأنّها لم تقتصر على وظيفة التّوصيل فقط وإنما سعت إلى التّأثير على المتلقي، فبدت لغة النصّ مفعمة بالإشارات المجازيّة التي تشير وتلوح وتوظّف الرّمز بدلالة خاصّة يحتاج فيها القارئ إلى تأمّل وتدبّر لفهم ووصول المعنى.
لذلك أجدني عند قراءة حرفها أنني أحتاج إلى قراءته مرة أخرى أو ربما أكثر من ذلك ﻷِنّها تستطيع أن تسيطر على لغته الشعريّة برمزيتها وعلاقاتها المجازيّة وانزياحاتها الدلاليّة بحيث تمكن القارئ لها من أن يشكّل اكتفاء شعريّا لنصّها وأن يكون النصّ مخترقا لزمانه ومكانه من خلال لغة تحمل واقعيّة الكلمة وبصورة شعريّة شفافة تلامس ولا تخدش وأحيانا برومانسية صارخة مع امتلاكك القدرة على الإيجاز والتكّثيف والتّحويل والتّرميز وربّما بدا نصّها الشّعري ضمن هذه المواصفات منتهكا للحدود بين الواقع والمتخيّل
من هنا يمكننا القول إن شعريّتها تعلن عن ذاتها دون مسوغات أو محسنات لامتلاكها القدرة الفنيّة واستثمار مكوّنات هذه القدرة ولامتلاكها الحساسيّة العالية للّغة والتّمكن من أدواتها البلاغيّة مع سلامة في صياغة الجملة الشعريّة وموسيقيتها وهذا كلّه يسهم في تعميق مفاعيلها وآليات استقبالها دون عناء، والسبب في ذلك أنّك تحسن التقاط اللحظة وتوظيفها فهي شاعرة يبدو أنها تستغرق في الحالة النفسيّة من خلال تصاعديّة متنامية موظّفة، توصلها إلى حالة ولادة النصّ الشّعري.
هذا التّطلع المبدع سمح لها أن تبسط أفكارها من خلال إنشاء صورة رمز موح عبر عرض لهمسة دافئة أو لوحة شاهدة واضحة وضوح اللّقطة الواقعيّة وهذا يحيلنا إلى أنها تمكنت من تحديد ملامح ومميّزات نصّها مستفيدة من موهبتها وتجربتها والتي تجلت بالمواءمة بين النصّ الشّعري ولغتها وأفكارها وطموحاتها
عبر هذا التنوع الثّري في إنتاجها يبدو السؤال مشروعا من هي سليمى السرايري؟
سليمى السرايرى شاعرة بلوريّة وواحدة من تلك القلّة القليلة التي طوّعت الحروف للتجربة الأدبيّة لتقدم ولائم دسمة بتراكيبها الغارقة في تجريد المعنى والمبنى، ولكن بنبض الشعر.
هي شاعرة من الجيل الذي تجاوز المفهوم الكلاسيكي للعمل الأدبي في إطار عمليّات التّجريب والبحث عن الهويّة وشكلها المضاف في أفكارها التي تعالج قضايا الواقع والانفتاح على الذات والآخر.
إن الرؤية الفكريّة المعاصرة في أعمالها تشتغل على كميات من الاستعارات والرموز التي تتحوّل معانيها الى طقوس تتوحد وتختزل أصوات مرادفة من الصّوت المركزي الخطاب الموجه إلى مساحات الواقع بشتّى تجلياته وتمظهره
لقد استطاعت الأستاذة سليمى السرايري عبر سلطة الإبداع أن تكسر القوالب النمطيّة في بناء النصّ الشّعري وتجعله مفتوحا على المكانيات التواصليّة بدون تحميل المتلقي كميّة من النتائج لتفسير النصّ وهي بذلك تركّز في أعمالها على الخلفيّات الفكريّة كمحور لإنتاج الصّورة القصصيّة.
تلك هي سليمى السرايري بلحظة الآن.
ختاما أقول:
من يمتلكون شيفرة الإبداع وإذن الخروج من هذا الرحم المعرفي هم عمالقة الخصب المشعّ علما.
هم فقط مالكو الطفرة الخارقة من تزاوج جينات الخصب المبدعة، يستطيع الواحد منهم رسم مسافات حدود الأرض بلون من لغة الألوان ورسم زوايا فكرة ضمن تشكل القيّم كي يؤسّس فيها رؤية لمفهوم التّاريخ الاجتماعي والفلسفة والحياة لكن قليلون هم الذين يعصرون وجع السماء مطرا في أعمالهم.
–
( محمد منير الزعبي من سورية/ كاتب ومدرس / عضو مركز دراسات ورئيس قسم التنمية الثقافية فيه) .
الكاتب محمد منير الزعبي