المنزل الأعظم حزنا
ليس بمقدور المرء أن يعبر بمنزله الأم، دون أن ينهمر. شيء ما في داخله، تكرّ حجارته كلها على رأسه في لحظة واحدة. دوي هائل بإزاء صمت هائل، هو هذا المنزل الأم. المنزل الأعظم حزنا. كيف يقتحم العينين. كيف يجعل كل حقول الشوك تغز في الجانبين. كيف تسقط السماء باكية على العتبات. كيف تحدودب القنطرة من ثقل الأزمنة. كيف تغرق الحجرة. الحجرات. الشرفات. أمكنة الخلاء. الدرج الذي يتسلق أقدام الطفولة اللاهية. كيف يغرق العمر كله في طوف البكاء الصامت. يجول في كهف البدن، ويعفش كل ما فيه من رثّ وغثّ وبقايا.
المنزل الأكثر حزنا، هو كل ذلك وأكثر في البرهة الداوية. حين تسحب الأم أذيالها، وتخرج عارية، من الدنيا العارية.
رأيت كل ذلك بعينيّ ، وأنا أشيع أمي. وأرمق على مسافة خطوة أو خطوتين. على مسافة ذراع أو ذراعين، ذلك المنزل الأم. ذلك المنزل الأكثر حزنا، الذي مضى يعب أنفاسنا واحدا واحدا، ولا يني ينظر إلي بشهوة النيران التي كانت تلتهمني، حين نظرت إليه، بعد لحد أمي في الحفرة الجاثية.
المنزل الأم، هو المنزل الأعظم حزنا علي، حين سالت بي الأودية. كان السيل يجرفني، كما الريح العاتية. كما إشتعال النار في غابة ملتهبة. كما الموج حين يعلو ثم يعلو، ليجرف ما تبقى من الأكمات والأجمات الهاربة.
بين منزل الأم وحفرة لحدها، مساحتي. مسافتي. مقدار قليل من خطوتي. كما إصبع أو إصبعتان، بين عينين. بين جبينين. بين جبهتين. واحدة تغور، وواحد تفور. تملأ المنزل الأم بكل هذا العويل الذي إجتمع فجاة في أذني، وسد علي الطريق. فلم أعد أسمع هدير المحيطات. ولا وقع الخيول. ولا دوي الليالي المظلمات. كل ذلك صار إلى الصمت. إلى الرنين الحزين. حين صار وجه أمي إلى وجهي، مثل قوس. مثل جسر. بين المنزل الأم وحفرة اللحد.
كانت القوس بين عيني وعينيها تضؤل. تضؤل. حتى تدانيني منها. ثم لا أذكر كيف ارتدتني. كيف ارتديتها. عدت إلى المنزل الأم أبكيه وأنتظر هناك، حتى يحين موعدي معها.
وعادت إلى حفرتها، حملتني، منديلا من الدمع. كفنا من ماء الزهر والورد. من العصفر والآس والريحان والياسمين. وغادرتني، كما القبلة الأولى. كما القبلة الأخيرة. كما جميع القبلات التي تممتني. أكملتني. رببت على كتفي. أنشأتني. رببت مني الوجنتين، ضئيلا و صغيرا.
المنزل الأكثر حزنا علي اليوم، هو منزلي. أنا أعظم الناس حزنا بأمي. كيف نطيق البعاد. كيف نعتاده. كم يمر من الوقت علي، حتى أنضم إلى تربتها.
لا شيء أعظم من الحزن، يغمر المنزل الأم ومنزلي في اللحظة الواحدة. تراب يرتب وحدة التربتين.
ألست أنا الذي كنت من تربتها. وحين اندفعت في الرحيل بغتة، آثرتني. كنت أرى كيف تدفعني بعينيها، وهي تسل ثوبي من ثوبها.
المنزل الأعظم حزنا، بيت أمي. يسكنني. يسكن الآن بين عيني، مثل سنام عمرينا. مثل قوسينا. أو قل أخيرا: مثل قنطرة بيتها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين