يقظة الأرض
في الحادي والعشرين من آذار، تستيقظ الأرض باكرا. تفرش الدروب زهورا. تملأ الأنهار ماء بجرارها. تقرع للحقول العصا، فتصير كلها خضراء. تزقزق للأطيار، فتأتي كلها إلى راحتيها. تنادي على الرعيان أن يأخذوا قصباتهم، ينفحون فيها معا. ثم تفتح للريح بابها، فتدخل مع الشمس إلى غرفتها. تملؤها ذهبا وضوءا وشمسا. ثم تهمس في أذن الأشجار. في أذن السنابل. فتغنى بالثمار وبالقمح. تدنو قليلا، من خد أمي، ترسم عليه دمعة الفرح بها. فيعظم خدها. يستدير رغيفا ساخنا، تدعو إليه أطفالها، غب كل صباح. غب كل ظهيرة. غب كل مساء. لا تتعب من خبز يديها. تظل واقفة على تنور قلبها، حتى يشبع الأطفال. تذرر لهم قمصانهم. تذرر لهم مراويل المدرسة. وتدعو لهم يخرجون من الباب، عصافير عصافير، تطير إلى القلم والدفتر والكتاب.
في اليوم الحادي والعشرين من آذار، تستيقظ الأم تفرش الأرض بالورد. تزين السماء بالنجوم. تفقش البحر زنابق بيضاء لفستانها. ثم تقول للأوراق: ما بالك خضراء حمراء صفراء، تحطين على صفحة الماء وتسافرين بأولادنا. تملئين الأرض، حبا وخبز وشعبا. تملئين الأرض، أطفالا وأزرار ورد.
اليوم تستيقظ الأم كل الأرض. تجعلها تسير في عرسها. تجعل الأطفال كلهم، يختبئون كالأطيار تحت ريش فستانها. تتقدم بهم مثل ملكة، على رأسها التاج، وبيدها الصولجان. وأمامها الصنوج والمزامير والدفوف والرعيان والحملان. وخلفها شعب، من نسل شعب. وغابة من صنوبر الأجيال والأعمار، تنحني لها.
ما أعظم موكبها الصباحي. ما أعظم موكبها المسائي. ما أعظم موكبها عند الظهيرة، وفي أوساط الليل.
حضن بسعة الأرض، يشد إليه كل من عليها. ثم يمتد يمتد. ثم يشتد يشتد، حتى يصير حصنا لنا. حتى يصير سقفا وجدارا ورغيفا. حتى يصير عائلة، تنحني على ركبتيها. وتدعو الورى للري والشبع والدفء. تدعو الورى للسهر معها على كتابها: تعلم الأبجدية.
أعظم من الأم. لا !
يقظة الأرض في عينيها عند كل فجر. جميع العرائش. جميع العرائس. جميع العرازيل. جميع المواقد. جميع القناديل. جميع الشموع هي. حين تضوئ للعتمة أناملها. تغزل كرة الصوف، كنزة للشتاء. وتطرز لليل مناديله البيضاء، تجفف بها تعب النهار عن جبين الأرض المتعبة بأولادها.
ما هذا الحنو الذي يذوب من قلبها. ما هذا الحنو الذي هو ذوب فؤادها. تنهض كليلة من نومة لم تنمها. من ليلة سهرت على مريضها. تنهض ثقيلة من همومها، مثلما ينهض ساق سنبلة ببيدر في الروابي وفي التلال وفي الجبال العالية. ينثر قمحه للعصافير. يخبزه في تنور قلبها، ويقدمه لجوعى الناظرين إلى يديها.
إستيقظت أمي هذا الصباح، بليلة. أعيتها أيامها. قسى عليها الدهر، قسوة الأرض على أبنائها. فلم ترني بين يديها. عادت فعدت أصابعها. ثم غفت حزينة. أيقظني فجأة إبهامها. تأخرت. كنت أعد حجارة الطريق اليها. كنت أعبئها في قلبي، ساخنة وباردة. كنت أجفف بها عيني. كان يشتد الهطول. كان يطول بطول الدرب إليها.
يقظة الأرض، يقظة الأم، هذا الصباح، كما في كل صبيحة عمري. ما هول أيامي، إذا ما إقترفت الغياب. إذا ما إقترفت البعاد. إذا ما أضعت يديها.
صبيحة الحادي والعشرين من آذار، وقفت على عينيها. تفتحت أجفانها، تفتح الورد. كان جمر عينيها، يخرج من تنور الأرض. من أتون الأرض. من أتون قلبها.
ما هذا القلب الذي يسع الأرض في نومها وفي يقظتها.
أم أعظم أرضا من الأرض. أم هي كل أمهات الأرض. هي أم الأرض. وأما يقظتها، فهي يقظة الأرض، حين تفاجئنا بها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين