النبع الأحمر
السادس عشر من آذار، يوم وقع النهار على الأزهار. كانت شقائق النعمان من بينها، قد خرجت لتوها، تملأ الحقول والسهول والجبال. تملأ الوديان. تملأ لبنان. سارعت إلى منعطفات ديردوريت في جبل الشوف، متكأ الصنوبر، تعبئ من النبع الأحمر الذي تفجر فجأة كغار قديم، كل الدم الذي سال. حملته في أوراقها، تماما كما تحمل الأوراق الحبر الأحمر وتصيح على الخطى، على الأخطاء. تصوب المسارات. تصوب المسيرات. تصوب الطريق.
ظهيرة ذلك اليوم، المرعب، المزهر بالقرنفل وبشقائق النعمان، أذكر أنني كنت قد عدت لتوي من معمل الروح، إلى البيت. لا أعرف، كيف تسلقني الخبر. لا أعرف كيف تسلقني الدرج. كنت أراه يخبطني. يرجفني. يجتازني. كنت أراه كيف كان يتجاوزني، إلى الحافلة التي أقلتني فورا إلى بيروت.
وجدت نفسي، كما موجة إنضمت إلى الموج في محيط عظيم من البشر. قوافل من جميع الجهات كانت تغص بها بيروت. قوافل من جميع الجهات، كان يغص بها الجبل. سالت الطرقات جميعا بالرجال وبالنساء وبالأطفال. سالت الطرقات جميعا بالأشجار. بالهضبات. بالوديان. بالأنهار. كانت الريح تصيح على الناس. على العمال. على الطلاب. على الفقراء. كانت الريح تصيح في جميع الجهات: غدر الكمال. ترجل يلاقي حتفه، والنهار يملأ وجهه. يملأ صحن وجهه، بالغار. بالشمس. بالأقحوان.
أذكر أنني تعرفت لأول مرة، على ذلك المحيط العظيم من الناس، خرجوا مثلي إلى وطى المصيطبة. إلى محلة الكولا وجامعة بيروت العربية، يستطلعون الخبر. سمعوا بالصاعقة نزلت من برجها، على جبل فأردته. نزلت على الكمال، تناوشه، فأعياها وأعيته. نزلت على الناس. على الفقراء. على الغلابى. على صفوف السرو و الصنوبر. على رجال الفجر في الحقول. على صقور، هالها أن تسمع الصاعقة تندب نفسها على إثم عظيم: تحرق قلب لبنان بطيشها. آن أن نزلت على صنوبرة فأردتها.
كان السؤال واحدا. كانت العيون واحدة. كانت الأيدي واحدة. كان موج الناس بحرا هناك، يسأل، عن عروس لبنان. عروس العروبة. عروس فلسطين، عروس القدس. كان الصوت واحدا: لا عطر بعد عروس.
كل الدروب إلى هناك، كانت ملأى بشقائق النعمان.
تفجر النبع الأحمر فجأة، كانوا يقولون. كانوا يهتفون. سالت ماؤه. سالت دماؤه. سال حبره. غطى أرض لبنان.
هوى العملاق. هوى المعلم. هوى القائد. هوى كمال جنبلاط. رأيته يمد يديه غريق الشعب. غريق القرنفل. غريق شقائق النعمان.
الزعيم اللبناني الراحل كمال جنبلاط
كنا نراه بهامته العظيمة، يخرج من العيون. يخرج من الأفواه. يخرج من الهتافات. كان كعادته والشعب كل الشعب حوله، محاصرا بالحب. أموا إليه يسلمون عليه. كانت أكف الناس، تمسح الندى عن وجهه الصبح. كانت مناديلهم رسائل حب ونرجس وأقحوان. كانت الرايات، تسود وتبيض وتحمر. كانت القامات كلها حانية. كانت الأرض تشفع لهم. تقبلهم أمواج أمواج، ولا تضيق بأنفاسهم. توسع صدرها لصيحات النسور التي غطت الشرفات والطرقات وأكاليل الجبل.
ما هذة الجموع التي خرجت من كل القرى. من كل المدن. من كل النواحي. تنادي على المعلم: نفديك بالروح بالدم يا معلم. يا الكمال.
كان النبع الأحمر لا يزال في ثورانه: أحمر قانيا. يبارك القادمين إليه من الأقاصي. يحملهم تذكاراته معهم. يجدد لهم العهد. يقسم لهم: أن العهد هو العهد. وأن المختارة ستبقى على العهد. فلا شيء يغيب عنها. لا الشمس ولا القمر. ولا الريح. ولا العواصف. ولا أهل الوفا. هناك قلعتهم، بنوها على القمم مداميك مداميك. فراحت تعد النوازل. ولا شيء يرهبها. ولا شيء ينزلها. تظل راياتها مرفرفة، مهما إشتدت على نواصيها الإحن.
كان النبع الأحمر في السادس عشر من آذار العام1977، في أعظم ثوران له في تاريخ المختارة. في تاريخ الجبل. في تاريخ لبنان. في تاريخ فلسطين.
و كانت ماء يديه، تروي القادمين إليه. وكان الغصص، يشد على حناجر الجموع الصاخبة. على حناجر الجموع الهاتفة. وكان الموت يمر حزينا حزينا. مضرجا بالأحمر القاني. يحمل على كتفيه، عباءة الوداع، وينقلها من جبل إلى جبل. وتسير الجبال خلفه. يسير معها لبنان. كل لبنان.
وكان وليد جنبلاط، الجبل الذي انحنى للموت الأحمر. للنبع الأحمر. قبل جبينه. ثم صار إلى طريقه، يكمل غايته. خلع على منكبيه عباءة التاريخ. وفي عنقه كوفية القدس. وبين يده اللواء. فيه وفضة من نبال.
كان وليد جنبلاط النهر الأحمر الذي سال من النبع الأحمر، في برهة الوداع.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين