مسرات الشعر العابر
سيجد قارئ الشعر، ما لا يجده غيره من المسرات. فهو وحده الذي ينال حظه من الدنيا كلها. فهل تسألني أيضا، عمن ينال حظه من بعدها.
قارئ الشعر ينتصب كسارية، يلتقط المسرات كلها، من خلال صحائف تستطير الشعر في كل الإتجاهات. وهل هناك جهة، لا تدخلها نسائم الشعر وتحرك ستائرها وأوراقها وتجعل لها غصونا أشبه بأغصان القلب. تستيقظ الأحاسيس وتجعلها أكثر إنفتاحا على الهوائيات. أكثر إنشراحا في الآماد. أكثر تفتحا كأكمام زهر و ورد:
” صالح الأشمر. رباعيات الحب العادي. منشورات الجمل. الشارقة- بغداد.2023: 190 ص.”
” إني أحبك مهما قيل أو حدثا/ مازلت رغم مشيبي في الهوى حدثا
كم ذا يلام أخو وجد كأن به/ مس فلم يرعو يوما ولا إكترثا.”
يقول المؤلف، إنه إستوحى عنوان ديوانه هذا، من المقدمة، التي وضعها الشاعر محمد علي شمس الدين، لديوانه السابق: “حب لكل الفصول”. قال يومها: ” شعر تدور حوله صور تخدم هذا المعنى، ولا تبعد عنه، فهو لا يستطرد من معنى لآخر في القصيدة الواحدة. ويحاول دائما أن يوجه أسهم الطريق إلى محجته، أو إلى ضالته في الحب.”
أريد أن أثني أولا، على رأي الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين، من شعرصالح الأشمر. وأن أضيف إليه: إنه يدوزن المسرات كلها، التي يتطلبها الإنسان العادي، بحيث أتى الشاعر ها هنا، وإستكمل ما كان بدأه في الأصل. فهو إذن شاعر المسرات العادية، يرحل إليها ليقطفها من حقول الأرض. ليقطفها من الشتول البرية، ضمامات، ضمامات على شكل رباعيات، أين منها رباعيات الخيام، التي سار في إثر صاحبها، فوقف على الحب الشائع، وهو أصعب أنواع الحب. بل أصعب من الإنقياد لشروط الخيام في طلب الحب الرباعي النوع. الحب الذي مطرحه في الخيال، لا في أيدي الناس العاديين الذين يطلبونه، مثل الخبز كل يوم.
“أسدلت دون رسولك الحجبا/ ورددت مع أختامه الكتبا.
ذيلتها بعبارة ذكرت/ قد أخطأ العنوان من كتبا”.
تبدو صيغة الوعي بمسرات الشعر، أسبق من مخاضها، في نفس الشاعر. لإنها مسرات عادية بسيطة، لا تريد أن تتحول إلى شعر معقود على أحصنة الأخيلة. ذلك لان البسيطة كما يرى الشاعر صالح الأشمر، مرتبطة بفضائها. وبالزمن الذي وافته، أو وافاها. إنه زمن الإنتقالات في حياة شخصية عادية، وفي تكويناتها البسيطة غير المعقدة. وفي سياق هذة المحدودية،نرى أحلام الشاعر كيف تتوسع، مما يضطره لإمتلاك مؤهلات التطوير وروافد الإغناء، كشاعر يتفتق عن أزرار، لا تلبث أن تصير على شكل عشق وحب.
” هذة الليلة نومي قد جفاني/ ما الذي أسهرني أو ما دهاني.
ألأني قبل أن فارقتها/ لم أسلها أي يوم ستراني.”
الشاعر صالح الأشمر
ليس المهم عند صالح الأشمر كمية الحب الذي يخضه، بل المهم نوعية هذا الحب البسيط، وكيفية تلقيه بإستهتار الإنسان العادي. وقدرة قلبه على تمثله وتوظيفه، حتى يتجلى أثره في نمط شعره العادي، وفي نمط سلوكه وتفكيره الإعتيادي. فما تقود إليه صورة الشاعر، هو ميلاد القصيدة العادية ومنشؤها في قلبه، بدون أن يرحل وراء الضباب، ولا أن يعب من قصائد الشعراء والكتاب. بحيث تبدو تمرينا شخصيا على الحب/ الشعر. تمرينا بسيطا، لا يحتاج لممارسة، إلا في حدود التعبير والإبداع. بحيث يبدو فيما بعد صانع الشعر والحب.
” ما لقلبي لم ينل منه الزمن/ نال من جسمي وأجداه الوهن.
وإذا الحسناء مرت فجأة/ رقص الأول والثاني سكن.”
صالح الأشمر، شاعر الحب العابر. وبقدر ما يبرز الخلاف بين العالمين: الشعر والحب، بقدر ما يوحد بينهما، هذا الرجل المفتون. والذي يتفنن في تفتيت الشعر، لرش فتاته في طريق الحب، حتى تقع عليه العصافير. فهو لا يصنع عالم الشعر، ولا يريد أن يسلك هذا المسلك الصعب. كما وأنه لا يتصنع الحب، ولا يريد أن يرسم خطاه في القلب. بل يدع الرياح تهب على رسلها، لتحمل إليه العادي والهين والعابر، من الشعر والحب.
” قصر العمر والأماني طوال/ وكثير من التمني محال.
وحدها القوس لا تصيد غزالا/ طالما القوس ليس فيها نبال.”
هل مسرات الشعر العادي، هي جزء من سيرة الشاعر. ربما كان الأمر كذلك، لأن صالح الأشمر، يجسد ميثاق التعاقد مع مهلهل الشعر ومهلهل الحب. يريد أن يقطع يومه. كل يوم، بما يحمل إليه. شرط ألا يكون من محمول الهم والغم. وأما أفقه، فهو بين عينيه. وأما مستقبله، فقد جعله في ذيل طرفه الذي يمتطيه. يشق به الريح، إلى حيث الهوى، وبيادر الهناءة والسعادة، بالظفر بالبسمة الشاردة. وهذا النوع من الشعراء يجعلون الزمن في عباءتهم. فحين تسألهم عنه، يقولون: نحن غلاما عك. ثم يسرعون في الجري. حتى لا تطالهم يد. وآنئذ تستوفي السيرة ميثاقها في الجمع والمنع، بين الحب الإستعادي، والشعر العابر، وكأنه لا شعر ولا حب. بل من نوع الشعر العادي للغاية.
” لو قيل للمحجور هلا يدعي/ للحجر فضلا كنت ذاك المدعي.
فحبيبي في الحجر مثلي إنما/ عن بوحها لحبيبها لم تمنع.”
الصيغة عند صالح الأشمر، إنما هي وليدة قناعته، لا قناعة سواه. يراه تنتج فيه، أكثر مما ينتج بها: تنتج الوعي بالثقافة وبالطواعية وبالليونة، دون أن تتأثر بثوابته التي لا يتنحى عنها قيد أنملة: إنه طور من راهن بالشعر لوجود إنسان يعمل على بعث حياته، في ولادات مستأنفة. فهل تمكنا من الإضاءة على جوانب من حياة شاعر، تبذل بالحب وبالشعر، إلى درجة جعله نوعا عاديا يقع للناس في عثرات الطريق.
أعتقد أن صالح الأشمر، في جميع أشمرياته، هو كذلك. يعكس شخصيته في شعره. تماما مثلما يعكس في شعره حبه. حتى تمتلئ صنوبرة عمره بالأكواز. فتتساقط عن كتفيه بحبها، كتجربة في الوجود فردية. وما كل فردي هو مثال. ولا نمط من الأنماط. وإنما شأوى إمرى هكذا أراد للشعر وللحب، أن يسلكا بصورة عادية إلى شخصه، على قاعدة أن الشخص يبدع الشعر. تماما مثلما يبدع الشعر الشخص في الآن نفسه.
” ودعت عامي خالي الجيب/ كتائب أضحى بلا ذنب.
لا مال في البنك محتجز/ لكن رصيدي في الغنى حبي.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب قصيّ الحسين