البحار… وملكة الغمام
تمزق الريح العاتية أشرعتها. وتضرب الأمواج الهادرة خشبها. تترنح سكرى، أو في نزاع، سفينة لا جهات لها. حيث لا شمس ولا قمر. لا شيء غير الريح تعصف. واللجّ يهدر…
همس البحار لنفسه. لماذا لا أهبط إلى داخل السفينة. أليس الموت هناك أقل قساوة؟…
لكنها الظلمة. تلك العتمة التي توازي ظل الموت الآخر. أوليس للموت ظل؟…
بغتة… حلت سكينة… بيضاء لكون ذلك النورس الذي لا يملّ التحويم… غلفته من الداخل وغطت الخارج…
راح ينظر إلى اللجِّ الهادر فتلذه موسيقاه…
ويحس صفع الريح نسائم راقصة. تلك اللحظات سمع عنها، لحظات التأرجح بين محطتين. عاد طفلا، وترنيم إمرأة يدخل شغاف روحه.
يللا ينام..يللا ينام.
ويد ضخمة مع صوت أجش تمسِّد جبينه وشعره.
تذكرهما، حضرا كما لم يحضرا من قبل، منذ سفرهما البعيد إلى الصقع الذي لا عودة منه. لم يتذكرهما على هذا الشكل.
تحول صوتها إلى موسيقى ناعمة تخترق روحه.
وتحولت يده الضخمة إلى ذروة حنان لا شيء يشبهه. أريد الذهاب إليكما… قال…
قذفته موجة عاتية من حافة إلى حافة. ارتطم رأسه بحافة ما فإزداد تأرجحا. واقتربا من ولادة ثانية.
ومن الافق الرمادي خرج ما يشبه الوجه.
إخترق الوجه أكداس الغمام المتلبد. وبدأ يزيح رماديته التي راحت تتحول إلى وردي.
وكأن سحر حل..
هدأت العاصفة. سكن الموج. توقف الهدير. وكانت سفينة تتهاوى على سطح اليم كعروس متبرجة.
خرج الوجه من الأفق وأخذ يقترب منه.
مع كل ثانية يقترب أكثر.
لم يبد غريبا. كان قريبا من ذاكرته. وكأنه التصق بها منذ الولادة. هذة الأنثى بشعرها المنسدل تولد من تاريخ عتيق. تحمل معها روائح أزهار لا تنبت إلا في أصقاع قصية. حيث يتزاوج الصخر القاتم مع الريح الآتية من البعيد.
راح البحار يسأل نفسه: أين شاهدت هذا الوجه؟
فجأة ومضت ذاكرته بضوء سحري. اكتشف أنَّ هذا الوجه ليس واحدا. ليس وجها واحدا…
بل عدة وجوه، مجموعة كاملة الوجوه في وجهٍ واحدٍ.
وجوه كل من أحب منذ ولادته تجمعت كلها في هذا الوجه…
التصقت بحافة السفينة المتهادية ومدت يدها…
أمسك بها وأصعدها إليه…
كانت الأنثى مولودة من بحر وبر. من شجر وصحارى. من نار ونور…
خليط يبدو وكأنه الحياة بعينها.
سألها: من أين أتيت؟.
فمطَّت شفتيها…
-من أنت؟
فمطَّت شفتيها..
– هل أنت خرساء؟.
فمطَّت شفتيها…
أصابته نوبة من الحنق، أدار وجهه إلى النادبة الأخرى وحاول الإبتعاد عنها.
لكن اليد التي أمسكت بكتفه كانت تحتوي كل حنان الارض. فتوقف وأدار وجهه إليها…
قالت: تريد أن تعرف من أنا؟..
قال: أجل. أنت المولودة من الغمام، الآتية من أعماق اليم.
قالت: أنا أنت… أنا مرآتك التي تبحث عنها منذ ولدت. أنا كنزك المفقود.. انا بحثك المضني وبحارك التي أضاعت شواطئها…
قال: إلى أين الآن؟…
قالت : إلى حيث تشير بوصلتك
– ليس لدي بوصلة..
– – أنا بوصلتك… قالت.
إلياس العطروني
الصحافي والروائي د. إلياس العطروني