الناقد التونسي المولدي عزوز يقرأ في قصيدة ” تأشيرة ضوء في الأفق ” للشاعرة التونسية سليمى السرايري..
………..&………….
هنا نص قصيدة الشاعرة سليمى السرايري :
” تأشيرة ضوء “
تذكّرني حين يأتي المساء ولا أكون…
حين يصمت قلمي
وتنبت ضحكتي شجرة في حدائق يديك
تذكّرني حين ينزوي الظل خجولا
من الوقت والزمن الرديء
ابحث جيّدا بين طيّات الأيام
عن مناديلي المنقّطة بالنجوم
عمّا تركتُ لك من مجاز في قصائدي
حين حطّت يمامات قلبي على شرفاتك العالية
ابحث في المتاهة عن وجعي
عن غزالة شاردة
تهيئ لك مروجا خضراء في الغياب
ترقص وحيدة على أوردة الوعود
وما تساقط من همسك ذات اشتهاء
هناك، عند القصيدة،
تركت لك قطعة محبة وشمعتين
فأنا التي، انطفأتْ مصابيحها
واستدارتْ تلاحق أطياف النجوم
وتُلقي ورد الكلام بين الأروقة
وفناجين القهوة التي لم تجمعنا
يا تأشيرة ضوء في الأفق
لا أعرف الآن من أين تشرب النيازك
ومن أين يجيء الطوفان؟
فهل كنتُ زيف أغنية في مداك؟
قدّيسة طيّبة العينين
سُفكتْ مشاعرها قربانا للعشاق
حين يئستْ
وأطلّ من شهقتها بكاء الفراشات…
الشاعرة سليمى السرايري
——&—–
قراءة الناقد المولدي عزوز :
السؤال البديهي الذي يُطرح ونحن نبحر في شعر سليمى السرايري ” كيف نستلهم معاني القصيدة ونستشفّ أغوارها و مقاصدها ؟؟ لعمري ان الإجابة عن هذا السّؤال هي من قبيل السهل الممتنع و اليسير الأبي ذلك ان الوصول إلى تلك الغاية يتطلب دراية والمام بماهية الشعر ومقوماته و ضوابطه وتمظهراته لدى الشاعرة إذ لابد من ادراك تجلياته عندها وما تستبطنه من أفكار و أهداف فأول ما نستشفه بعد اقتحام عالمها الشعري أن الشعر عندها سيل جارف من العواطف الجياشة و بركان ثائر من الاحاسيس وعواصف هادرة من الاختلاجات و كتل عملاقة من المشاعر وذلك بأسلوب طغى عليه الجانب الرمزي والايحاءات المعبرة والدلالات العميقة ضمن لغة جميلة سلسة رقراقة فيها كثير من الانسياب والأناقة و الذوق الرفيع البعيدة كل البعد عن التكلف و الاسهاب و التعقيد والاجحاف و الحشو و الاطناب. هي أيضا لغة ثرية بالمعاني الغزيرة المتدفقة بالمقاصد المتجانسة حينا والمتنافرة حينا اخر والتي لا تعدو أن تعبر عن الصراعات التي تضطرم في وجدان الانسان و التي تتراوح بين الخير والشر بين الهناء و الشقاء بين الامل و اليأس ولذلك تضمن شعرها الكثيرمن الشيفرات التي تحيل القارئ الى عدة تأويلات عند فكها وتطرح لديه جملة من القضايا عند الكشف عن جملة الأسرار الكامنة في القصيدة وتدغدغ لديه نوازع الحيرة عند العثور على مفاتيح الغازها واستجلاء رموزها فهو” شعر الزوبعة ” أو هو ” زوبعة الشعر” من هنا يكتسى اللفظ عند الشاعرة قيمة موضعية وقيمة دلالية هامة ما يجعله يخرج عن دائرة المألوف ليأخذ أبعادا أخرى ومعان شتى و ليوحي للمتلقي بمشاهد فسيفسائية تتمازج فيها عناصرمتنوعة وتتفاعل لتشكل لوحات فنية فيها كثيرمن التناسق والذوق والرشاقة حيث تلعب الطبيعة دورا طلائعيا بتجلياتها الساحرة وارتساماتها الفاتنة إذ انه من الواضح أن الطبيعة أنفاس الشاعرة مسكونة بها بل لعلها جزء من وجدانها حتى اتّحدتا وارتباطا ارتباطا وثيقا جعلهما في علاقة جدلية فاستحالا كيانين في جسم واحد في جميع تمظهراته فالاشجار والحدائق والظل والنجوم و اليمامات و الورد والفراشات و الغزالة و المروج الخضراء و الضوء هي عناصر حيوية في القصيدة بما لها من وظائف مفصلية في أبعادها الرمزية بل وامتزجت مع العواطف الجياشة والمقاصد العميقة ففي هذا المقطع:
” وتنبت ضحكتي شجرة في حدائق يديك”
يبدو ذلك الامتزاج جليّا وموغلا في الرمزية من حيث تواترالالفاظ وتتاليها في نفس الجملة و الدالة على الطبيعة والاحاسيس و الأعضاء في نفس الوقت : ( نبات + ضحك + شجرة + حدائق + يدان ) فالانبات بما فيه من حياة وانبعاث جديدين و الضحكة بما تحمله من معاني السعادة و الشجرة بما تمثله من عطاء و خيرو الحدائق بما فيها من مناظر خلابة بازهارها و اعشابها و اليدان بما فيهما من حنو و عطف و تزخر القصيدة بذلك التمازج في كثير من المواضع مما يؤكّد الدور الرّئيسي للطبيعة في ترسيخ المقاصد التي ذهبت اليها الشاعرة كما يلعب الزمان أيضا دورا مفصليا في الحبك الدرامي للقصيدة فهو منسجم مع المشاهد انسجاما كاملا ويتطابق مع المقاصد تطابقا تاما بل و يضفي عليها حيوية وديناميكية ويأخذ الزمان أشكالا متنوعة تلائم الاختلاجات و الاحاسيس ممّا يضفي على القصيد حبكة درامية رائعة تلامس المشاعر المتأججة الناجمة عن وجع الفراق وألم الهجر وحرقة الاشتياق فمنذ المقطع الأول بل منذ الكلمة الأولى ” تذكرني” ترتسم ملامح الانفصال والابتعاد والفراق بما تحمله من دعوة للتذكر المرتبط بالزمان
“حين يأتي المساء” واختيار المساء هو امعان في التأكيد على مرارة الافتراق والألم الذي نشعر به خصوصا عند الليل حيث تجتمع كل الكائنات في اوكارها ويتعاظم أنذاك الوجع عندما لا نجد من نحب معنا:
” تذكّرني حين يأتي المساء ولا أكون” ويتواصل سيل الحرقة عند انقطاع حبل الوصال وانعدام الاواصر بــ ” صمت القلم ” عندئذ تعتمل الذكريات وتزيد المعاناة أكثر خصوصا عندما تكون الذكريات حلوة ممتعة منقوشة في الذاكرة وتتكثّف الانزياحات و الدلالات و الايحاءات العميقة المعبرة عن المعاناة القاسية ولهيب الشوق وحرقة التوق عند تواصل الدعوة للتذكر ـ بعد أن حكم القدر بالافتراق ـ بضرورة إيجاد المُفارق بالبحث عنه في دهاليز الذاكرة عن ذكرياته و آثاره و مخلفاته وذلك عندما تعصرنا آلام الفراق و تعصف بنا أوجاع الهجر و تكوينا لوعة الاشتياق آنذاك لا عزاء لنا الا التماس علامات مضيئة و أحداث لامعة ومواقف ناصعة عساها تخفف عنا من فضاعة الموقف و فداحة الوقع وعسى أن تندمل بها الجروح الغائرة و أن تتعافى بها النفوس العليلة ولنا فيما تركه لنا احبّاؤنا الذين فارقونا من “محبة ” و “شموع ” ” تأشيرة ضوء “
………..&………….