أنسنة التغريدة
كتاب محمود القيسي: مذكرات طائر (نموذجا)!.
تغريدة الطير، بعيد خروجه من أوكاره صباحا، أو زقزقة صغاره فيها، لهي أول خيوط الفجر. هي أول خيوط الأمل. لهي النقطة الأولى التي يغمسها منقاره في الحقل، في النبع، يفتش عن قطرة الماء. عن حبة قمح. ثم يطير. يسبح في الهواء بريش قلبه الصغير. بخوافيه. وكأنه ملك الدنيا كلها. أو كأنه ملاك أتى من السماء. نعم. ملاك أتى من السماء، هكذا يشبهون جميع الأرواح المقدسة الوافدة إلينا بشكل أو بآخر. يجعلون لها جناحي طائر، يرفرف وهو يدنو منا، سابحا في الفضاء. نحو يمنة أو يسرة، أو قدام أو وراء..
لا يستطيع الإنسان، مهما علا شأنه، ومهما هبطت به همته وحوافزه، او إنحطت به الهمة والحوافز، أن يعيش بلا أمل ولو للحظة واحدة. فالأمل له جناحي طائر يزقو في داخله، يعلمه التحليق. يدفعه إلى التحليق دفعا، دون أن يكون له قدرة، على تحقيق آماله، ودون أن تكون له مقدرة على دفع الأحلام المزعجات.
بين الآمال المحلقة، وبين الآمال الخفيضة، يزقو طائر النفس، عند الكاتب: “محمود القيسي: مذكرات طائر. توزيع دار النهضة. بيروت- 2024: 310 ص”. يزقو إلى شريكة عمره دلال العزة القيسي. يغرد لها، ما دام يحرث في حقل التغريد، يشق الثلم بقلمه لينقش البيدر: يهديها هذة التغريدة. يهديها أولى تغريداته، ما دام يهم بوضع كتاب التغريدات، على ما صنع الهمذاني وتلاه الحريري، في صناعة كتاب المقامات. أو على غرار ما فعل الوهراني، في كتاب المنامات. أو على غرار ما صنعه المفضل الضبي، في كتابه المفضليات. فأولى تغريدات القيسي، كانت لزوجته دلال، مفتتحا بذلك كتاب التغريدات:
” أهدي كتابي هذا إلى الوردة البيضاء/ صاحبة العينين العميقتين/ صاحبة الأذرع الطرية وحضن الورد/ إلى فراشة الألوان الليلية/ …./ إلى عصفورة من نور/ عصفورة تمشي في دمي/ عصفورة تائهة في شراييني المبللة/ حبيبة الروح/ الوردة البيضاء/ الوردة الأولى/ الوردة الأخيرة.”
ولا غرو فتغريدة العصافير في الصباح، تعلن ولادة الشمس. تطلق إشارة التواصل. ثم لا نلبث أن نراها في كلمة. حيث البدء كان بها.
في تقديمه للكتاب، يقول الدكتور حسين صفي الدين: كانت المفاجأة، عند الفجر طائر الشورب/ صائد الذباب، ثم الهدهد صاحب التاج. وفي ذلك ما فيه من قسمة، بنيت على تغريدتين: تغريدة السعي. وتغريدة الملك. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الإنسان يتعلم التغريدتين. يواصل شق دربه في الحياة، على أساس من العمل والملك.
تماهى المؤلف محمود القيسي، في تويتات العصافير. أصغى إليها جيدا. ثم قارن بينها وبين صناعة تويتات الناس المقلدة لها. جمع المعجب منها في كتابه مذكرات طائر، فكان باكورة عمله الجاذب: نزاع بين الذاكرة والحلم. يعكس مغامرات الشباب الأولى، في أجواء مدينته صيدا. صيدا القديمة، بزواريبها وأحيائها الفقيرة والغنية..إنها إنفعالاته ومشاعره وبعض أفكاره، التي يطالها بقصب السماء. يقول د. صفي الدين عن المؤلف:
” أبو خالد أضاف إلى تغريداته الصورة، والرسم، مستعينا بالكاريكاتير الذي توفره له إمرأته، التشكيلية دلال العزي. يحسب أنها كانت شريكة كاملة في معظم تويتاته.. يضفي عليها الجمالية وتكثيف التعابير المتضمنة فيها. ليجعلها مدخلا للتفاعل معها..يخشى من الغرق فيلتقط عود نجاة… فكرة. فلسفة. حكمة. مطلع قصيدة.. لتستمر الحياة.
في مقدمة محمود القيسي لكتابه، كان قد إستعارها من الشاعر أسامة محسن، إبتدأ بها كتاب مذكرات طائر:
” غدا/ سأترك أحذيتكم البيضاء في الوحل/ وأمضي حافيا كشفتي/ فلا شيء يبقيني على قيد الحياة/ إلا الحياة../
غدا سأترك ثيابي الإجتماعية الوسخة/ كومة على السرير/ عاريا وحرا/ إمسك يد المطر وأجرب الطيران”.
ويختم المؤلف في تقديمه أيضا لكتابه، بما كتبه محمود درويش:
“سأحلم لأصلح مركبات الريح… أنا إبن أمي. لا تساورني الشكوك، ولا يحاصرني الرعاة ولا الملوك. وحاضري كغدي معي. ومعي مفكرتي الصغيرة: كلما حك السحابة طائر دونت: فك الحلم أجنحتي. أنا أيضا أطير… فكل حي طائر.”
تغريدات محمود القيسي، تتجاوز الآلاف في كتابه الأثير. جعلها جميعها بين دفتي هذا كتاب “مذكرات طائر”. وهي تعالج الموضعات السياسية والموضوعات الإجتماعية والموضوعات الوطنية والموضوعات القومية. يغرد فيقول:
” طوابير الذل… مستمرة/ على الرغم من التطمينات… طوابير الإنتظار والذل قائمة، إلى أن تأتي الحلول… وأبواب التهريب على مصراعيها..”
وفي تغريدة أخرى
” فطر فلسطيني مبارك يليق بعروس السفائن… أم البدايات وأم النهايات. / فطر مقدسي يليق بمملكة السماء المحتلة… فطر مبارك من مهد المسيح ومسرى النبي…القدس عاصمةفلسطين.”
محمود القيسي، صاحب التغريدات/ التويتات. جعلها فنا قائما بذاته. يصيب فيها العيوب، فيقتلها. ويصيب بها المحاسن، فيجملها. طريقته، طرفته. مثل التغريدة/ التويتة. أوكل إليها الإبداعات كلها. جعل منها بابه للنقد. وهل هناك أجمل من التويتة، في التعبير المختصر، عن فن السحر القائم في التعظيم وفي المسخ. !
ولا غرو، فقد واكبته زوجه الأستاذة التشكيلية دلال الغزي القيسي، بكتابها الأثير الذي وضعته في فن الكاريكاتير: “الأنثى الأفعى”. فكان بذلك تؤمة الكلمة الساخرة، بالرسم الساخر. لإصدار العملين، في رؤية تشكيلية واحدة، للسحر المقهقه الساخر، في مشروع أنسنة التغريدة، وأنسنة الهزأة بالكلمة و بالرسم.! يقول المؤلف في تغريدة له:
” عندما يصبح سعر صرف الدولار للأدوية غير المدعومةب88 ألف ليرة!! عندما تصل فحصية الطبيب إلى 25 دولار!! عندما يصل إرتفاع الدولار إلى مستوى القضاء على ما تبقى من قدرة شرائية لدى المواطنين!!
عندما يصل المواطن إلى إطلاق الرصاصة الأخيرة على راسه!! كل شيء يصبح جاهزا للإنفجار.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
الكاتب د. قصيّ الحسين